قصة الفرن /ج٥
ارتديت ثيابي بسرعة، كنت أرتجف من الفرح وأنا أفعل ذلك، أخيراً سأرى أميتاب العزيز عن قرب، تذكرت خالي بقوة هذه المرة، وتمنيت وانا اتحسر لو إنه كان معي فعلا! ورغما عني شرد فكري ، انتابتني نشوة غريبة حين تذكرت إبنته،تذكرت قبلاتنا، حيرتنا ونحن نحتضن بعضنا! تبا، كما أنا مشتاق لها. الآن أصبحت جاهزا، مسدت برفق شاربي الرفيع، ازحت خصلة شعر كادت أن تتدلى على جبهتي، التففت حول نفسي، ألقيت نظرة اخيرة على هيئتي في المرآة الكبيرة المثبتة الى الجدار، قبل أن اخطو صوب المكتب، رفع أبو زمن رأسه، أبدى إعجابه بأن هز رأسه، ارتبكت قليلا لكني لم أخفي عنه شدة إعجابي بأميتاب، رفع حاجبيه مندهشا واخذ يضحك حتى كاد أن يستلقي على قفاه، احمر وجهي سريعا، ويبدو انه لاحظ ذلك، نهض عن مقعده وقال :
_حسبي فقط أن تكون سعيدا، رغم إني أرى الدموع منذ الآن في عينيك! - اشحت بنظري - آه، لاعليك، فقط كن بخير. ما أن خطوت خارجا حتى استقبلني ضجيج الشارع، مشيت متمهلا،وجدت إن الوقت مازال مبكرا، فكرت بأن اتناول بعض الكباب، ياربي، ما أن خطر الكباب في بالي حتى امتلأ فمي باللعاب! مشيت صوب المطعم، ملأت أنفي رائحة الشواء العجيب، كان المطعم يبدو كخلية نحل، وجدت إنه من الطبيعي أن يشهد ازدحاما في مثل هذا الوقت المبكر من الصباح، لويت قدمي وقد قررت فجأة أن أنتظر فترة الظهيرة لأتناول الكباب، سآكل بشهية كبيرة عندها! قطعت الشارع بعد أن تأكدت من خلوه من السيارات السريعة، جمدت في مكاني وأنا أرنو صوب تلك الملامح الأميتابية، والتي كنت أتفرج عليها من خلال شاشة تلفازنا الصغيرة، عما قريب سأراه وهو يملأ الشاشة العملاقة كلها، كان المكان شبه خالي، وشباك قطع التذاكر مغلق، لمحت بطرف عيني اثنان اوثلاثة، أخذوا يتفرجون مثلي، على الصور خلف الواجهات الزجاجية، ترددت قبل أن اسأل أحدهم، كان يقف قربي، شاب لم يتجاوز عمره الثلاثين، سألته عن موعد العرض الأول، لم ينظر نحوي، كان منشغلا في التحديق وقد عقد مابين حاجبيه، لكنه رفع سبابته وأشار إلى القطعة البيضاء الصغيرة المثبتة فوق أغلب الواجهات الزجاجية، همست لنفسي، يالي من غبي، كان مكتوبا على ظهر أكثر من قطعة مواعيد العرض! مازال أمامي حوالي الساعتين، قبل ابتداء العرض الأول، ذلك ما نبهتني له الساعة الدائرية الكبيرة المثبتة فوق إحدى الواجهات الزجاجية. حدقت عبر الشارع لمطعم كويسنجق، كدت أن أتوجه نحوه، لكن فجأة تذكرت شيء، كان خالي قد حدثني عن حديقة الأمة ونصب الحرية، وكذلك عن باب الشرجي (الشرقي) الذي كان يعج بالمحلات المتنوعة والباعة أصحاب البسطات. تركت سينما السندباد خلف ظهري، أخذت أمشي متفرجا على الناس، وشعور بالسعادة يملأ جوانحي، فجيبي عامر بالمال، وثمة شيئان ينتظراني وسيجلبان لي المزيد من المتعة! نعم أميتاب العزيز والكباب الشهي. اتسعت عيناي من الدهشة، ياالهي، كانت السلع والأشياء المعروضة على الأرض وفوق البسطات، مما لايخطر في البال، كان أثر الحصار المفروض على بلدي واضحا في ملامح أغلب الباعة! تخيلت للحظة أبي وخالي، حتى إني ابتسمت مثل الأبله، لو كانا هنا معي مثلا، كان من الممكن أن نخرج نحن الثلاثة بشتى أنواع السلع الغريبة، فقط من أجل التباهي في بلدتنا الريفية! لفت نظري بعض المجلات الأجنبية المكدسة والملقاة على الأرض، كان أغلب اغلفتها عبارة عن صور لفتيات ونساء بأثواب مغرية، احمر وجهي وأنا التقط إحداها، تخيلت إني أصبحت فجأة محط أنظار الآخرين! سألته عن ثمنها بصوت خافت جدا، كان البائع الكهل مشغولا بالحديث مع احد الزبائن، أخبرني عن الثمن، ومالبث أن اشاح بوجهه وواصل حديثه مع الشاب الآخر، والذي كان يساومه بشدة، حول أنبوبة غاز جديدة كانت معروضة بجانبه، نقدته الثمن بسرعة ولهفة، ثم طويت المجلة ومشيت صوب أحد الباعة الذي كانت بضاعته قد لفتت نظري، كان الرجل الشيخ يدلل على بضاعته وهو يستعرض محاسنها، شتى أنواع الخواتم بفصوص ملونة وبعضها بدون فص، رحت احدق بالآخرين الذين شكلوا حول البائع الجالس نصف دائرة، لفت نظري خاتم بفص أزرق فاتح،لمعت عيناي بسرعة، تذكرت أبي، هذا الخاتم يليق به، إنه كفيل بأن يزين واحد من أصابعه التي انطبعت ذات يوم على خدي! مشيت بعيدا ومازالت عيناي معلقتان بالخاتم، فكرت بأني حتما سأعود ذات يوم إلى هنا، لأبتاع خاتمين إثنين لأبي وخالي، امتلأت نفسي بالرضا، كدت أن اصطدم بأكثر من متبضع، أصبح المكان يضيق بالناس شيئا فشيئا، مددت يدي فجاة متلمسا جيبي، آه، الحمد لله، كان خالي قد حذرني من بعض الذين يعتاشون على السرقة، مضت أكثر من ساعة وأنا اتجول، لكني كنت حريصا أشد الحرص على ما في جيوبي. بدأت أشعر بالجوع، كان منظر تلال الحمص المسلوق الحار في بعض العربات المجاورة، قد أثار دهشتي وشهيتي،وجدت نفسي اجتاز حاجز البخار المتصاعد من القدر الكبير، لم يمهلني الرجل خلف العربة عناء السؤال، وضع أمامي كاسة ممتلئة حتى حافتها، ثم امتدت يده ورفع زجاجة الليمون عاليا، قبل أن يضعها أمامي، جفلت قليلا، اما الرجل فأخذ يضحك بعفوية، وقد بانت أسنانه المصفرة. (يتبع)
---
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق