رواية الفرن /ج٦
غادرت منطقة الباب الشرقي، متوجها بخطوات سريعة، صوب سينما السندباد، لم تكن المسافة كبيرة، لكن هاجسا غريبا تمكن مني،فقد خيل لي بأن جرس السينما قد رن! ومما زاد الطين بلة إن الحمص المسلوق الذي تناولته، لم يستطع إسكات بطني عن القرقرة! مما أصابني بالضيق، فكرت وأنا الج باب السينما المشرع، بأن ابتاع شطيرة واحدة، لكني استعضت عن ذلك بشراء حفنة كبيرة من اللب السوداني الساخن،مددت يدي بأرتباك واقتطعت تذكرة، تنفست بعمق، اخذت اتأمل الورقة الصغيرة المثقوبة من الأعلى، همست لها وانا أتقدم صوب الرجل ذو النظارات السوداء في أعلى السلم :
_أنتِ من سيقودني إلى أميتاب إذن! تبا لك. لفت نظري في بداية الأمر وانا أتقدم بخطوات مترددة، حجم الستارة الهائل، والذي كان يخفي خلفه الشاشة العملاقة البيضاء ،بقيت في مكاني احدق في الأنوار الخافتة، وفجأة تناهى إلى سمعي صوت أم كلثوم، وهي تشدو بصوتها الرخيم العذب، يا إلهي، فرق شاسع بين الأجواء هنا والأجواء في الخارج، لم يكن ثمة ضجيج في البداية، والمقاعد بالعشرات، قررت بعد تردد لم يطل، بأن أجلس في المقدمة، ستكون الرؤيا أفضل هكذا، وسيكون بوسعي قراءة الترجمة بكل سهولة! لم تكن المقاعد مريحة جدا، مع ذلك فقد أخترت مقعدا في نهاية الصف الثالث بعيدا عن عيون الرواد الآخرين، والذين تناثروا في مجموعات متفرقة، تناولت من جيبي حفنة صغيرة من اللب السوداني، التفت للخلف، أصبحت المقاعد شبه ممتلئة الآن، بدأ بعضهم يطلق الصفير، كان ثمة رجل يحمل صندوقا عبئه بزجاجات البيبسي، فكرت بأن ابتاع واحدة، لكنه كان بعيدا عني، رحت احدق فيه متأملا أن يستدير صوبي، الملعون ابتعد أكثر، ظل صوته الممطوط يرن في رأسي، قبل أن اقرر النهوض لمناداته، تعالى صوت الصفير القادم من الخلف ثم انطفأت الأنوار. تسمرت في مكاني وقد اتسعت عيناي من الدهشة، ما أجمل كرنفال الألوان هذا، جذب انتباهي الموسيقى التصويرية وطريقة الإعلان عن الأفلام ، تراخيت في مكاني، ظننت في البداية إن أميتاب الطويل سيطل بكل وسامته المعروفة، لكني تفاجأت بأنه لم يكن سوى إعلان او دعاية لعروض الأفلام القادمة! فجأة اشتعلت الأنوار مرة أخرى، اخذت أنظر عن شمالي ويميني، ماشاء الله، المقاعد تضج برؤوس شاغليها، سمعت صوت الرنين المعهود، هذه المرة دنا بائع البيبسي قريبا من مقاعدنا، ثمة من ناداه بصوت قوي، طلبت زجاجة ونقدته الثمن، أزال سدادتها بحركة سريعة، ثم وضعها في يدي الممتدة، لم تمض سوى دقائق حتى خلا الصندوق الكبير من الزجاجات، اما البائع فقد اختفى خلف الباب الأحمر، وعندها ساد الظلام وعم الهرج والمرج، وتعالى الصفير الحاد من كل الاتجاهات!. ساد صمت عجيب، رحت احدق بأنفاس مبهورة، بدا أميتاب صغيرا في أول الأمر،صبي حافي القدمين، انقض مثل العقاب على ثلاثة أولاد أشرار، حاولوا النيل من ولد نحيل كان في طريقه للمدرسة!. امتلأت بالأسى،فأميتاب ذكرني بنفسي حين تركت الدراسة، أخذ ينفض التراب عن ثيابه بعد أن صفع الأولاد الثلاثة، كان الولد النحيل يقف قريبا منه، وهو مندهش مما فعله الصبي الحافي! قبل أن يذهب أميتاب تقدم منه الولد النحيل وانتزع ميدالية كانت في معصمه، مد يده بها إلى أميتاب الذي راح يحدق فيها بدهشة، افترقا عند باب المدرسة، كان اميتاب يشعر بالحرج، لأنه لاينتعل حذاءاً جميلاً كالذي في قدمي الولد النحيل!. كان أغلب الموجودين أمامي وحولي يدخنون السجائر بلذة بدت واضحة من طريقة نفث الدخان للأعلى، فجأة انتابتني رغبة مفاجأة، بدت في أول الأمر باهتة، لكنها سرعان ماجعلت صدري يعلو ويهبط، كنت أرغب بتدخين سيجارة! رحت أفكر واسأل نفسي، ياترى كيف سيكون شعوري عندها!. حاولت لفت إنتباه الشاب الذي كان يجلس بجانبي، كان يدخن بشراهة، قدمت له حفنة من اللب السوداني، لكن اللعين رفض بأن اكتفى بهز رأسه، واخذ ينفث الدخان للأعلى!. قبل أن يصل أميتاب الصبي لمنزله، وقف متسمرا في مكانه، أثار دهشته ثلة من الناس، كانت محتشدة عند الباب، هرول بأقصى سرعته، امتلأت ملامحه بالدهشة وهو يزيح الناس جانبا، كانت أمه الملقاة في حجر جارتهم المسنة تحتضر، ما أن رأته حتى انسابت الدموع من عينيها، صاح بأعلى صوته، أماه! ثم ارتمى عند قدميها. تنحنحت، واصفر وجهي في الظلام، قبل أن اطلب بصوت بالكاد فارق شفتي، سيجارة من جاري الشاب، لم تند عنه أي حركة، حتى أنه لم يلتفت صوبي، شعرت بوجهي يسخن فجأة، تبا لي من غبي، هكذا همست في أعماقي، حاولت تناسي الأمر وقررت التركيز في أميتاب وأمه التي ذكرني منظرها بأمي، حصل ذلك حين احاطت ولدها بين ذراعيها، قبل أن تفيض روحها، وجدت الدموع الساخنة تنساب على خدي رغما عني، حدث ذلك بسرعة، حتى إني لم أنتبه لصوت جاري الشاب وهو يقدم لي سيجارة إلا بعد أن لمس كتفي!(يتبع)
---
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق