قصة (اليوم الأول)
لفتَ انتباهي منظر أمي وهي تدفعُ بيدها للأمام ، فَعلتْ ذلك أول الأمر بصورة مترددة، لكنها وهي تحدّق في ملامح وجهي الذابل مدّتها بصورة ثابتة هذه المرة، أرتجفتْ زاوية فمها حين وضع رجلٌ بدين قطعة نقدية، ثم راحَ يمسحُ العرق عن جبينه بمنديل أبيض، أخذتْ تتأمل القطعة المعدنية، أطبقتْ أصابعها بقوة ثم أنفرجتْ بعض أساريرها وهي ترمشُ في وجهي المندهش وتقول :
_لابد من هذا، عليك أن تتحمل قليلاً حبيبي، أخوتك في الدار، سنحمل لهم شيئاً من الخبز، وربما بعضاً من حبات البندورة، مارأيك؟ ستساعدني طبعاً، فأنتَ الرجل. قالتْ هذا وراحت تهزّني وهي تغالبُ دمعة ظلّتْ عالقة في طرف أجفانها. كانتْ أمي تقف إزاء عمود النور الملتهب، والشمس ترسل شواظاً من نار، أحاول عبثاً التحديق فيها، جَففّتْ أمي جبهتي الغارقة بالعرق بطرف عباءتها، كانتْ تلهث وصدرها يعلو ويهبط، هَمستْ لي بضعف :
_ما أن نحصل على قطعة نقدية أخرى حتى نبتاع بعضاً من الخبز، أما الماء حبيبي فسهل ميسور، رافقني لنبحث لكَ عن الميسور هذا. ضمتني إلى صدرها، حاولتْ أن تخفي جسدي تحتَ عباءتها لكني رفضتُ بقوة وأخذتُ أهزُّ برأسي يمنة ويسرة:
_ يجب أن أتحمل، هي قالتْ عني رجل، ألم تقولي ذلك ياامي؟. ُخيّل لي إني نَطقتُ بهذه العبارة لأن أمي أبتسمتْ بوجهي. قبل أن تحلُّ فترة الظهيرة، كانتْ أمي قد تجمّعَ لديها كمية لابأس بها من القطع النقدية المعدنية وحتى الورقية، ياللهول، كان ثمة فرحٌ غريب أخذ يلتمع في عينيها الزائغتين، قالتْ أمي وهي تمدُّ يدها لحبّات البندورة المصفوفة :
_الرب كريم حبيبي، أنا أفكر بأخوتك، حتماً غلبهم الجوع بشدة الآن، أتعرف؟ عليهم أن يحسنوا معاملتك ، لولاك، لولا ملامحك الذابلة لما منحنا الناس شيئا، شكلك يجلب العطف حبيبي. قالتْ هذا ثم أعتدلتْ وهزتّني وأخذتْ تضحك بعصبية لفَتتْ نظر البائع. ونحنُ في طريق العودة مالت أمي على واحد من الاكشاك المنتشرة على طول الطريق، قالتْ :
_أظن بطلي يستحق بعض الحلوى، مارأيك؟ . راحتْ تهزّني، كنتُ قد غفوتُ قليلاً، أطبقتُ كفي على الحلوى اللزجة،لم أكن بمزاج رائق لتناولها، كانت الدنيا تدور أمام عيني،حتماً هذا بسبب الحر، فَكرّتُ بأنه ليس من اللائق أن أتقيأ على كتف أمي، تلقّفَ أخوتي الثلاثة كيس الخبز من يد أمي النحيلة، تَبعثرتْ حبّات البندورة،تسمروا في أماكنهم، أبتلع بعضهم ريقه الجاف، لكن أمي لم تغضبْ،بل أخذتْ تضحك وتبكي في آن واحد ثم جَلستْ دفعة واحدة، أطلقتْ سراحي، أخذتُ أحرّك أقدامي قبل أن أقف بصعوبة، حدّقوا في كفي المنطبقة، تتَبعتُ نظرتهم بعيون زائغة، فَتحتُ أصابعي اللزجة واحداً بعد الآخر، سَمعتُ أمي تعدهم بمزيد من الحلوى غداً، تنَهدتُ واغرورقتْ عيناي، مَددتُ يدي صوبهم، وأرتسمَ ظلُّ أبتسامة على زاوية فمي، تناوشوا الحلوى فيما بينهم، بالكاد تركوا أصابعي، تقيأتُ في حجر أمي!. (تمت)
بقلم /رعد الإمارة /العراق /بغداد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق