قصة (حمراء الشعر)
كنتُ مستلقياً في سريري اطالع مافاتني من محاضرات، حينما أطلَّ وجه شقيقتي الصغرى، بَرقتْ عيناها ، دَنتْ من سريري ثم مَدّتْ اصابعها تَعبثُ ببعض الكتب الملقاة على الطاولة، أخذتُ اختلس النظر من خلف الأوراق التي بين يدي، ماذا تريد هذه الشقيّة الآن ياترى؟ هكذا فَكرتُ مع نفسي، قالتْ وهي مازالتْ تَعبثُ بالُكتبْ :
-أعرف ماذا يدور في خلدك، لاتتصور بأنني غبيّة، عندما تريد شيئاً مني،خدمة ما مثلاً، فأنكَ تمتدحُ شعري ، أو عيناي، أو ثوبي الجديد هذا - أشارتْ لثوبها وهي تَعقدُ مابين حاجبيها بألم - وعندما تنتهي مصالحك معي،تهرب بنظراتك مني كالعادة ، وكأنك لا تعرفني، وأن تلطّفت ونَظرتَ نحوي، تكون نظرتك جامدة وكأني قطعة أثاث مستعملة . استدارتْ تريد الأنصراف ، وَجدتُ نفسي أقفز عن سريري ووجهي مُحمرْ! أمسكتُ بها عند الباب، رَفعتُ ذقنها بطرف اصبعي، ياإلهي، كانت عيناها دامعتان، وصدرها يعلو ويهبط، كنت خجولاً بطبعي، شَعرتُ بأن الكلمات اختنقتْ في حلقي، كدتُ أبكي، جَذبتُ رأسها الصغير إلى كتفي ، هَمستُ لها بودٍ صادق :
-أقسم لك برأس أمي الطاهر، بأنه لايوجد أعزُّ على قلبي منكِ وشقيقاتنا الأخريات، وأسعد لحظاتي هي أيام الأجازة الجامعية التي أقضيها هنا بينكم ياحبيبتي. أزاحتْ رأسها عن كتفي، كانتْ تبكي بصمت، مَسحتْ دمعها وقالتْ وهي شبه ضاحكة :
-طيب سامحتك هذه المرّة، لكن لاتنسى هديتي، عندما تستلم مصروفك من أبي!أريد عطراً مميزاً، تباً نسيتْ، تعال بسرعة، سأريك شيئاً قد يستهويك.قالتْ هذا وغمزتني بعينها وهي تَجذبُ يدي بقوّة. رحتُ أسير خلفها كالأبله ،فيما اشتدَّ ضغط اصابعها على كفي، أجتزنا باب البيت الداخلي، مشينا خطوتين ثم توقفنا عند الباب الخارجي، كانت أمي وواحدة من شقيقاتي تجلسان إلى صبية تبيع السمك! يا إلهي، ما أشدُّ جمالها، احمرَّ وجهي سريعاً وشعرت بسخونته، حاولتُ رفع يدي لأخفاء ارتباكي ،لكن شقيقتي أبتْ أن تترك ذراعي، الشقيّة كانتْ تضحك وهي تغزني في جنبي، أخذتْ الصبية تواصل النظر في ملامح وجهي ، وهي تتحدث مع أمي بلهجة ريفية عذبة، رَفعتْ أمي رأسها، قَطبتْ حاجبيها ولاحتْ نظرة تعجّبْ في عينيها ، وكأنها تقول، هل حقاً هذا طفلها الخجول! واصلتْ أمي المساومة، كانت أصابع يديها تجسّان السمك وتتفحصانه بمهارة، أما الصبيّة فيبدو أن الخجل قد امتطى ملامحها هو الآخر ،فقد احمرّتْ تماماً، أخذتْ أمي تزيح الأسماك التي وقع عليها الاختيار جانباً، رَفعتْ رأسها نحوي، قالت بملامح جامدة :
-أنتَ تفضّل الأسماك الصغيرة، هذه التي بطول الكفْ. راحتْ تَقلبُ بين اصابعها نوعاً من السمك، الذي تجيد هي وشقيقاتي قليه حتى يصبح هشاً، كنت مغرماً جداً بهذا النوع من السمك، الذي كنت التهمه مع الحسك ،أومأتُ برأسي، كانت الصبية بعينيها المكحلتين وفمها الصغير جداً ،تحدّق فيَ وهي تبتسم، حدست بأنها قد تكون في الثامنة عشر من عمرها أو أكثر من ذلك بقليل، هَمستْ أمي لشقيقتي التي كانتْ تجلس ملاصقة لها ، مَدّتْ هذه اصابعها،أخرجتْ من جيب أمي بعض المال، راحتْ أمي تعد، رَدّتْ شقيقتي ماتبقى من المال، ثم نَهضتْ من مكانها وهي تحاذر اصطدام ذراعيها بثوبها، حدّقتْ في وجهي بصورة مباشرة، كنت مشغولاً بالنظر للصبيّة التي أضافتْ حفنة من الأسماك الصغيرة لما ابتاعته أمي ، رَفعتْ بصرها، وجدتني ابادلها النظر، عدّلتْ من وضع حجابها الذي كان يخفي شعراً احمراً متوهجاً كالنار، نهضتْ واخفتْ جسدها الرشيق خلف عباءتها ،تنحنحتْ أمي، قالت للصبيّة قبل أن تأمرني بالدخول بطرف حاجبها، بأن تحضر بعد ثلاثة أيام. سال لعابي حينما دَخلتْ شقيقتي الصغرى، وهي تَحملُ صينية الغداء، أغمضتُ عيني لبرهة، وأنا استنشق رائحة السمك المقلي شبه المحترق، كنتُ أفضل قَليهُ بهذه الطريقة،وضعتْ شقيقتي الطعام وازاحت بيدها الرشيقة قطعة القماش التي كانت تغطيه، ياه ، طبقٌ كبير ممتلئ حتى حافته بالسمك، مخللات وبصلٌ أخضر، وكاسة كبيرة من اللبن الذي تصنعه أمي بطريقتها الفذة، بالكاد تمالكتُ نفسي، اقتطعتُ قطعة كبيرة من الرغيف الساخن الكبير، رَفعتُ بصري، أن شقيقتي مازالت تقف فوق رأسي، قالتْ وهي تكاد تضحك كعادتها :
-قبل أن تفترس هذه الأسماك الصغيرةالمسكينة،
متى ستذهب إلى بغداد!؟
-بعد يومين ،لكن لماذا تسألينْ؟ هديتك سأحضرها من هناك ،لقد وعدتكْ.
-أنا لم أسألكْ من أجل الهدية، أعرف انك ستحضرها معك، وإلا سيكون عقابك شديداً، أنه بخصوص ذات الشعر الأحمر! كانتْ على وشك التهامك بنظراتها، مسكين سترحل دون أن تراها.
-أعرف، لقد سمعتُ حديث أمي اليها،كان بودي تأجيل سفري، لدي أمتحان مهم، لابد من الذهاب. راحتْ شقيقتي تحوم حولي، عَقدتْ مابين حاجبيها،تَوقفتْ مراتٍ عدة،كانتْ خلالها ترمقني ، وفي كل مرة كنتُ اكفُّ عن المضغ ، سمعتها تتنّهدْ بعد لحظات، رفعتُ رأسي لكنها هزّتْ كتفيها وخَرجتْ ،دون أن تنبس بحرف. ،انطلقتُ وصديقي نَجوبُ شارع الرشيد مروراً بالمتنبي، كنا سعداء فكلينا كانتْ أجابته جيدة في الأختبار ، الأمر الذي دعانا للخروج بعيداً عن جو الدراسة الكئيب، مررنا بشارع النهر، كان المكان يضجُّ بشتى أنواع السلع والبضائع ذات الماركات الأجنبية المعروفة، ابتعتُ لشقيقتي عطراً مميزاً كما وعدتها، اخترقنا شارع الرشيد،توقفنا لتناول بعض الطعام ،ثم انطلقنا صوب سينما السندباد، تَسمرتْ خطواتنا عند اللافتة الكبيرة، ياللهول ، أنه عرض لأحد افلام ممثلنا الهندي المحبوب اميتاب! حدقّنا ببعضنا ونحن نبتسم ، ثم كَبرتْ ابتسامتنا وأصبحتْ ضحكة، وغبنا في زحام الداخلين.(ملاحظة :القصة بثلاثة أجزاء، يتبع)
بقلم /رعد الإمارة /العراق /بغداد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق