قصة قصيرة للأديب سلمان فراج
الشحاد.
١
- إني جائعْ ... ! والبرد يُنَخِّل في العظمْ ... !
هذا ما سمع القوم من الشحاذ فأعطَوْه ثياباً حتى ولى عنه البردْ ... ثم أتته الخبازات بزيت وبخبز تعبق منه رائحة الطابون، ومضى.
مر شيوخ بالخبازات وقالوا:
- عافاكن الله، ومر الأولاد يبصون إلى أين يروح الشحاد، ومرت زوبعة غبار.
رغت النسوة:
- (( يا ولدي )) الفقر يهد الحَيلْ. حدجت واحدة منهن الدرب وقالت:
- الفقر يُذلْ. هتفت واحدة أخرى : - حتى (( سبعَ الليل )).
وتأوهتِ النسوة إشفاقاً، ودعون الله له، وكَشَفْنَ عن الأعناق ورحن يكررن الدعوات لنعمته ويذبِّلن الأجفانْ.
وقفت واحدة شمطاء رمتها يوماً عاصفة في الحي وهزت يدها وهي تهيب بهن وصاحت:
لا يشحد لقمته إلا بطَّال ... أو محتالْ ... وسباع الليل تطال اللقمة لو كانت خلف جبال الغالْ ...
ومضت، زمت شفتيها ومضت والنسوة مشدوهات ما بين الخبز وبين الصمت وبين النار ...
لكن مرت زوبعة غبار.
٢
في اليوم التالي مر الشحاذ على الخبازات ومر شيوخ قالوا:
- عافاكن الله. ومر الأولاد، ولم تنبسن بأي كلام عنه، ولكنّ الشمطاء مضت فوراً عنهن ومرت زوبعة غبار.
٣
في اليوم الثالث مر شيوخ بالخبازات ومر الأولاد ومرت زوبعة غبار.
نظر النسوة للشمطاء ولم تنبسن ... نقلن الأنظار مراراً ما بين الخبز وبين الوجه المحمر وبين النار. هتفت إحداهنَّ: - مضى ... لا يأتي اليوم. وقالت أخرى:
- صار لديه من الخبز كفاية أيام، لكنْ إن يأت اليوم لنسألْه من أي بلاد يأتي ولأي مكان يأوي، لن نعطيه خبزاً حتى نعرف عنه كل الأخبار.
٤
في اليوم الرابع جاء الشحاد وقدم جرة ماء من عين القرية للخبازات ولم يأخذ خبزاً ... ومضى، ومضى الأولاد يبصون إلى أين يروحُ، وجاء شيوخ قالوا للنسوةِ:
- عافاكن الله.
شرب الكل من الماء وأطفأن الحر وكلن مديحاً للساقي. لكن مضت الشمطاء تزم الشفتين، تدق برجليها الأرض وتهذي من وجع الأفكارِ ... وهبت زوبعة غبار.
٥
في اليوم الخامس لم يأت الشحادُ، أتى الأولاد يصيحون ومر شيوخ وقفوا قدام الخبازات وقالوا:
- أنظرن ...!
فبان لهن الأمر، وكانت أشداق شيوخ القرية ذاهلة. مر الشحاد يلف الشمطاء بمعطفه ويغذ السيرَ، ضحكن كثيراً حتى كادت أن تنطفئ النار.
ودنت زوبعة تهدر، لكن الشحاد مضى ... وتغابى كل الناس وما حط على السرد غبار.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق