البرد جد قارس ، والفجر قارب على الضياء ، وهي جالسة على تلك المكنة ، منحنية على قطع الفستان تخيطها ، تحرك بيديها بكل حب وعزم ، تحاول إنهائه قبل بزوغ الشمس لترسله لصاحبته وتأخذ الأجرة ، فهي في حاجة أكيدة لهذه النقود ، لقد انتهى دواء والدها ويجب عليها إحضاره وفورا لأنه لا يمكن أن يبقى يوما واحدا بدونه ؛
أنهت الفستان وقامت بكيه وطيه ووضعه في كيس ، ولبست معطفها وخرجت مسرعة ، كانت سعاد تسارع الوقت تخطو خطواتها وتعدها عدا ، أعطت الفستان لصاحبته ، وعادت أدراجها للحي متجهة للصيدلية ، اشترت الدواء وعادت للبيت ، دخلت المطبخ وأحضرت فطور الوالد ودخلت لغرفته تحمل معها الدواء ؛ كان الوالد ممددا بفراشه ، نادته بكل لطف " أبي ، صباح النور ، هيا انهض لتفطر وتتناول الدواء " .... لكن لا من مجيب ، نادته مرارا وتكرارا ، انحنت عليه ووضعت رأسها على صدره ، بدأت تتلمسه و دقات قلبها تتزايد وتتسارع ، كانت أطرافه باردة كقطع الثلج ، أطلقت عقيراتها للصياح أبي أبي أبي مات ....
دخل إخوتها الغرفة على صياحها وانطلق الجميع في البكاء والنواح
كان هو السند الوحيد لهم رغم رقاده بالفراش ، فهو الوحيد الذي يؤنس وحشتهم في هذه الحياة بعد رحيل والدتهم ؛ والآن لا سند لسعاد وأخوها وأختها ....
سعاد التي تحملت أعباء والدها وإخوتها منذ الصغر ولمدة عشر سنوات ، كان عمرها خمسة عشر سنة حين توفيت الوالدة وبعد موتها ببضعة أشهر أصيب الوالد في حادث مروري ولزم الفراش ومن يومها وسعاد هي الأب والأم لإخوتها ، تطهو وتغسل وتدرس لإخوتها ، وتمرض والدها وتنحني على ماكنة الخياطة التي ورثتها من أمها وتعلمت فن الخياطة منها أيضا ، بعد ما ينام الجميع للحصول على المال لتوفير القوت والدواء ، لقد تركت سعاد مقاعد الدراسة رغم تفوقها ، ولم تبخل على أسرتها بجهدها ؛ والآن ، مات الوالد وأصبحت هي المسؤولة الوحيدة على إخوتها ولزما عليها أن تواصل تحمل العبء والحفاظ على الأمانة التي تركها والداها بعهدتها ؛ عليها بالصبر والتجلد ؛
تحاملت على نفسها وخرجت تطرق أبواب الجيران ، طالبة المساعدة لإتمام مراسم دفن والدها فهي لا سند لها الآن تعول عليه في هذه الأمور سوى الله والجيران !!!
رفيعة الخزناجي
تونس
يتبع
مرت الأيام على سعاد بطيئة وثقيلة كأطنان من الرصاص ، واصلت خلالها سعاد عملها على آلة الخياطة ، كانت تبذل قصارى جهدها لتأمن مأكل وملبس وحاجيات إخوتها الدراسية ، مرت الأعوام وانتقلا أخوها واختها إلى التعليم الجامعي و ازدادت المصاريف وكانت سعاد ترسل لهما شهريا معاليم الكراء والمقتضيات الأخرى دون كلل ولا ملل .... أدت سعاد.الأمانة على أحسن وجه... تخرجت أختها وأصبحت معلمة ومربية و تزوجت من زميل لها وانتقلت معه لبلدته .... تخرج الأخ وأصبح مهندسا تفتخر به سعاد وبعد مدة قليلة تحصل الأخ على عقد عمل بإحدى بلدان الخليج وسافر و ترك سعاد وحدها ....
مرت الأيام ، وتباعدت إتصالات أختها وأخوها.... شيئا فشيئا ... استمرت سعاد تعمل على آلة الخياطة واستمرت الساعات تمر مرور الغرزات في الفساتين أمام عينيها ....
تواصل هجر الإخوة لسعاد وابتدأ المرض يحل يفا على جسد سعاد ... وابتعدت عن تلك الصديقة الوفية ، رفيقة دربها ، ومورد رزقها ؛ وأصبحت وحيدة تمر الأيام والأيام دون أن تسمع طرقا على باب بيتها ، وبدأ ذلك الشعور القاسي والمؤلم ينتابها من حين لآخر ؛ شعور التخلي الإهمال .....
وذات يوم ، سمعت طرقا على بابها لم تصدق أذنيها في باديء الأمر ، ثم تتالت الضربات على الباب ، فنهضت من فراشها وفتحت الباب ....
ألقت عليها فتاة التحية بكل لطف ، ردت التحية بأحسن منها وسألتها ما حاجتها ؛ ردت الفتاة بكل عفوية قيل لي ، أطرقي ذلك الباب فصاحبته " حبيبة اليتامى " وأنا يتيمة وأطلب الحماية ... اغرورقت عيني سعاد بالدموع وقالت لها تفضلي ، البيت بيتك ....
دخلت سعاد والفتاة وبعد القيام بواجب الضيافة ، قالت الفتاة بصوت ملؤه الحزن :
"
- أنا اسمي أمل ، توفي والداي في حادث مرور ، وكان عمري حسب ما قيل لي تقريبا خمس سنوات ، كان ذلك اليوم يوما حزينا لا اتذكر منه شيء سوى أن إحدى الجارات أخذتني معها لبيتها وكنت أبكي وأنادي" أمي أمي ، أبي أبي "
حتى أخذني النعاس ، وما كنت أتذكر سوى أنني كنت أذهب لبيتنا أطرق الباب وبقوة وأنادي والدتي لكن لا مجيب ، تكرر ذلك يوميا ومرارا ، وذات يوم طرقت الباب ففتح وفرحت جدا لأنني ظننتها أمي ، ولكن خيبتي كانت عظيمة حين ظهرت لي سيدة وأمرتني بأن لا أعود إلى هنا ثانية لأن هذا بيتها .... عدت أدراجي وبقيت أبكي وأبكي وأنادي لأمي وادعوها لتعود لي .... ومرت الأيام ، ونسيت الموضوع ، وتغيرت معاملة الجارة لي ، أصبحت قاسية ، تعاملني بعنف ،
وحتى الدراسة حرمتني منها ، جعلتني خادمة لديها .....
وذات يوم وبعد مرور سنوات ، قدمت إحدى الجارات لزيارتنا ، دار حديثا بينهما ، مفاده أن الزائرة طلبت يدي لابنها ، فوافقت الجارة حتى تتخلص مني ومن أعبائي ، ولكن الزائرة وضعت شرطا لزواجي من ابنها وهو أن تعيد الجارة لي بيتي ومعاليم الأجور التي تحصلت عليها طيلة تلك السنوات ، اغتاضت الجارة وردت عليها بأن البيت لم يكن بيتها ، كان ايجارا ، وقعت مشادة كلمية بينهما وخرجت الزائرة غاضبة وساخطة ؛ قضيت ليلتي أفكر بما حصل لي وما سيحصل ؛
ومن الغد ، لما أرسلتني الجارة لقضاء بعض الحاجيات لها ، مررت بإحدى الجارات الأخريات اللاتي يعرفن والدي ، وأخبرتها بما سمعت ، فأسرعت للجارة لتعرف لما أنكرت الحقيقة ، حقيقة الاجتماع الذي التئم بعد دفن والداي ، حين قرروا أن تتولى العناية بي وان يأجروا البيت ويضعوا الار في حساب الى حين أبلغ سن الرشد ؛ لكن الجارة أنكرت ذلك وقالت بأن البيت هو ملك لأختها وأن والدي استأجره منها ، وبعد موته استرجعت أختي بيتها ؛ وطردتني طرد الكلاب وألقتني بالشارع ؛ بقيت أهيم على وجهي وأجوب الشوارع والأحياء إلى أن وصلت حييكم هذا ، واعترضني ذلك الشيخ ، نظر إلي وبكى ثم أمرني بطرق بابك ، دون أن يعرف حكايتي ، هذه قصتي سيدتي "
احتضنت سعاد أمل ، وهي تبكي ، وقالت لها أنا أمك يا ابنتي ، وهذا بيتك وسيرزقنا الله من رزقه الوفير ، لا تيأس من رحمة الله .
مرت الأيام ، وكانت سعاد في تلك الأثناء ، تعلم أمل افنون الخياطة وعادت عجلة تلك الآلة للدوران ،وعاد ذلك الصوت الجميل لمسامع سعاد ، شيئا فشيئا ، عادت البهجة لقلب سعاد ، وعاد طرق الباب والزوار .... و كانت أمل فتاة ذكية ؛ بعد فترة من الزمن صار لهما مغازة لبيع الملابس الجاهزة وشيئا فشيئا بمجهودهم وعزيمتهم أصبح لديهم علامتهم الخاصة وأصبح لديهم محلا رائعا بأروع مكان بالبلد ....
وذات يوم ، تدخل الجارة المحل ، وتفاجأ بوجود أمل ، وكانت تظنها مجرد عاملة هناك ، ولكن تفاجأت بأنها حبة المحل ؛
وبما أن الطمع ، غول يأكل الأخضر واليابس ، فالجارة عادت بعد أيام لتطلب يد أمل للزواج من ابنها ، لم تتفاجأ سعاد ولا أمل ، ولكن طلبت منها مهلة للتفكير ، ولما انتهت المدة ، أخبرت سعاد الجارة بأنها موافقة ، ولكن لها شرط وحيد وهو أن تعيد لأمل بيت والديها ومعاليم الإيجار طيلة السنوات الفارطة وان يتم ذلك قبل عقد القران بأسبوع
بعد التشار مع زوجها وابنها ، وبعدما ، فكروا مليا في كونهم سيسترجعون كل شيء بعد الزواج وكذلك محل الملابس ، وافقوا وتم ما طلب منهم بسلام
وقبل موعد عقد القران بيومين ، وقبل صعود الطائرة ، كتبت أمل رسالة تركتها للجارة تقول لها :
"" الحق يعلو ولا يعلى عليه ، ولا يضيع حق وراءه طالب ""
رفيعة الخزناجي
تونس
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق