الاثنين، 13 يونيو 2022

قصة قصيرة تحت عنوان{{نعيمة}} بقلم الكاتبة القاصّة الفلسطينية القديرة الأستاذة {{حلا لافي}}


..................نعيمة.....

رائحةُ النومِ تعبقُ في حنايا الغرفةِ ، وصوتُ شخيرُ جدتي يتسللُ عبر ذاكِ الممرِ المظلمِ ، وهدوءٌ أعشقهُ كنتُ قد بحثتُ عنه مطولًا ولم أجدهُ إلا عندَ جدتي "نعيمة" ، آسفةً أمي ،  آسفةً أبي ، لكن هذهِ هيَّ الحقيقةُ ، فإخوانيَ الصغار لا يهدأُ لهم صراخٌ ، وهذا ما جعلني أتركهم ، وها أنا منذ سنواتٍ خَلتْ أعيشُ مع جدتي . كم أعشقُها... لا أَدري ماذا أقول ، فكل ما تقولهُ يُعجبني ، وكلُّ طعامٍ تُعدهُ أُحبه وأتلذذُ وأَنا أَشتمُ رائحةَ الطعامِ الذي تطهوه ، حتى تلكَ الحيرةَ في عَيناها هَمساتِها ضَحكاتِها وعَبراتِها وتفاصيلَ وجهها الذي شَقَ الزمانُ فيه خُطوطهَ ، كل شيءٍ في جدتي ولجدتي أُحبهُ ، أُحبهُ وأَفتخرُ بهذا الحب لها .
أَنامُ باكرًا مع نَومتها وأَصحوا كذلك ، طَوالَ الليلِ تغمرني بالأَغطيةِ ، ومنذُ أَن يطأَ رأسَها وِسادتها تَغُطُ في نومها مسدلةً تلك الجفونِ الذابلةِ وتنهمكُ في شخيرها ، تتقلبُ وتتقلبْ ، وكلما انقلبت أَقفزُ من مكاني ، وكُلَ هذا أُحبهُ أُحبهُ يا جدتي.

أَفقت ذاتَ صباحٍ ولم أَجدَ جدتي بجانبي كعادتها ، هرعتُ خارجَ الغرفةِ أبحثُ هنا وهناكَ ، دخلتُ المطبخَ عَلِيّ أَجدُها تُحضرُ الفطورَ كعادتها ، لكنها لم تكن هناكَ ، فتحتُ البابَ وأَثناءَ ذلكَ وَقعتْ عَينايَ على المكانِ الذي تضعُ جدتي فيه حِذائَها ، لكنني لم أجدُ حِذائها مكانهُ ، فأَيقنتُ حينها أَنها بخيرٍ ، وبالتأكيدِ كان خروجها باكرًا حتى ترى إحدى النسوةِ التي جاءها المخاضُ ، خَرجتُ لأَجلسَ على عتبةِ بيتها وإذ بأُمي قادمةً نحويَ ، وهي تحملُ على رأسها الخبزَ الذي تَأبى جَدتي ألا تُفطرَ إلا إذا كان بُخارهُ يَتطايرُ من جَنَباتِهِ.

نَعيمةُ ... لماذا تجلسينَ هنا يا أُمي؟ وأَينَ جدتُك؟
أُمي : أَفقتُ ولم أَجدها بجانبي ، بَحثتُ وَبحثتُ ولم أَجدها ، لكن ما طمأَنني هو عدم وجود حِذائها في مكانهِ.
انهضي وأَغلقي البابَ وتعالي لنتناولَ فطورنا سويًا ، فغالبًا ما ذهبت جَدتُكِ لترى أُمَ إِبراهيمَ ربما حانَ موعد ولادتها ، وأنتِ تعلمينَ أن جدتكَ قابلةُ القريةِ ، فليسَ غريبًا أن تخرجَ ليلًا أو نهارًا ، قُلتُ لكِ مِرارًا وتَكرارًا مكانَكِ بين إخوتَك . 
ما أَن سمعتُ هذا الكلامَ المتراميَ الأَطرافِ يخرجُ من فيهِ أُمي ، إلا وَركضتُ مسرعةً نحو بيتِ أمِ إبراهيمَ ، لم أَلتفت لصراخِ أُمي ، ولا لِتأفُفها وتَأَجُجِ كلامها ، فالكل يعلمُ مدى عشقي لجدتي ، ولن  يثنيني كائنٌ ما كانَ عن هذا العشقِ.
ركضتُ وركضتْ حتى وصلتُ لبيتِ أم إبراهيمَ ، ارتميتُ على عتبةِ بيتها لألتقطَ أَنفاسيَ ، وليهدأَ لُهاثيَ ، وفجأةً سمعتُ صراخًا وبلبلةً من أفواهِ لفيفٍ من النسوةِ الآتي تَجمعنَ داخل الحجرةِ ، وفجأةً علا صوتُ جدتي فوق صوتِ النسوةِ ، وعمَ الهدوءُ في المكانِ ، إذ إن لصوتها حضورٌ قويٌ ، فلا صوتٌ يعلو فوقَ صوتِ حُنجُرَتِها ، كم أَفتخرُ عندما أَجدُ الجميع صغيرًا وكبيرًا يُنصتُ عندما يعلو صوت جدتي.

لم أَعد أَسمعُ شيئًا،وضعتُ أُذني على البابِ وأَطرقتُ باحثةً عن صوتِ جدتي ، فَسَمعتُها تُوبخُ بِهدوءٍ تِلكَ النسوةِ ، وتطلبُ مِنهنَ الخروجَ من البيتِ لِتباشرَ عَملها ، وفعلًا فُتِحَ البابُ وإذ  بِهنَ يَخرجنَ واحدةً تلو الأخرى ، تِلكَ تَتَعثرُ في مشيَتِها ، وَتلكَ تُمسك بِيدِ جارتها وتنظرُ خَلفها ، وهناكَ اثنتانِ لم تَرُق لهنَ كَلماتُ جدتي فبدت على وُجُوهِهِنَ سِماتُ الإِنزعاجِ والتَأَففِ ، ولحظةُ خُروجِ آخرِ النسوةِ  آخٍ  ، آخٍ يَدي ، يدي ، دَعَستي على يَدي يا خَالة ، آهٍ آسفةً ، نعيمةُ ها أنتِ كَعادَتكِ ماذا تفعلينَ هُنا؟
ارفعي قَدَمَكِ لقد آلمتني ،آلمتني وانسحبت بهدوءٍ تاركةً خلفها أصابعَ يَديَّ المُزرقةِ لقد كانت أثقلهنَ وزنًا تبًا لها ،
 آخٍ آخٍ يدي...
لعلَ جدتي سمعت صُراخيَ ، إذ شقت البابَ ورأتني أَحتضنُ يدي ، وأَردفتْ قائلةً : نعيمةُ ، ماذا تفعلينَ هنا يا حبيبتي ،
أَلمْ أَترُكَكِ نائمةٍ ؟؟ 
جدتي صباحيَ لا يَحلو إِلا إذا رأيتُ قسماتَ وَجهَكِ وبريقَ عَيناكِ ، أَلم نتعاهد أَلا تخرجي من البيتِ إِلا بِرفقتي ، جَدتي لا تُعيدِيها كرةً أُخرى . عُودي إِلى البيتِِ يا صَغيرتي وتَناولي فُطوركِ مع إخوانكِ ، وَطَمإِني أُمكِ بأَنَ أم إبراهيمَ بخيرٍ... جدتي لن أذهبَ إلى أَيِ مَكانٍ ، وَلستُ جائعةً ، وَسأعودُ بِرفقَتكِ ريثما أَنهيتِ عملكُ ، وصراخُ أمِ إبراهيمَ يعلو ، كم أَنتِ عنيدةٌ يا نعيمة إِبقِ هنا لكن بهدوء . 
دَخلتْ جدتي وتركت البابَ مواربًا ، أخذتُ أَسترقُُ النظراتِ ، فَرأيتُ جدتي تنظر لساعتها القديمة المعلقةِ في رقبتها ، رأَيتها تتنقلُ داخل الغرفةِ بِمِشيَتِها المتثاقلةِ ، وَأمُ إبراهيمَ مُنشَغلةً بصراخها ، وإِذ بجدتي تصرخُ في وجهها قائِلةً : اصمتي ، لقد آلمني رأَسيَ من صراخك ، هذه الولادةُ السابعةُ لكِ ، اصمتي!!!!  ساعديني وساعدي نفسك . 
صرخت  أُم إبراهيم : أتألمُ يا خالة نعيمة أتألم ...
أَشعرُ بأَلَمِكِ لكن ساعديني كي ينجوَ المولود .
 مولود !!!!
 إِذن صبي ،صبي يا خالة نعيمة ، نعم فأنا أريد صبيًا ..... فلتصمتي ولتساعدينني بدلًا من التفكيرِ بالصبيّ كم أَنتِ حمقاءٌ !!! كم كنتُ أَضحكُ وأنا أستمعُ لحديثِ جدتي مع النساءِ الآتي باشرت لهن ولادَتَهنَ فالبعضُ منهنَ يرغَبنَ بالصبيانِ وينفرنَ من ولادة البناتِ ، والبعضُ منهنَ ساذجاتٌ يُمضينَ وقتَ الولادةِ صراخًا وبكاءًا ، وجدتي لا تعطي لهنَ بالًا ، والكلُ يمشي من تحتِ أَمرها ، وفجأةً رأَيتُ جدتي تَهرعُ نحوَ البابِ وُتغلقهُ وإِذ بها تقولُ لأُمِ إبراهيمَ إِدفعي، إِدفعي، أَمضيتُ وقتًا طويلًا وأَنا أنتظرُ جدتي ، وتلكَ العتبةُ آلمت جنباتي ، وفجأةً إذ بي أسمعُ صراخًا ناعمًا شجيًا ، وتخللهُ زغاريدُ جدتي ، علمتُ حينها أَنَّ أُم إبراهيمَ أخيرًا قد وضعت مولودها ، قَرعتُ البابَ فلم يُجِبنيّ أحدٌ ، أَعدتُ الكرةَ مراتٍ ومرات إلى أن فتحت جدتي البابَ ، سارعتُ بسؤالي : ها يا جدتي هل أنجبت أم إبراهيمَ بنتًا شقراءُ مثلي؟؟ 
ضحكت جدتي وأَردفت قائلةً : كم أنتِ شقيةً يا نعيمةُ ، وكوني على يقينٍ أَنهُ لن تتمخضَ إمراةً في القريةِ لتنجبَ فتاةً تُشبِهُكِ ، ولن يَحصلَ أحدٌ على شقاوتكِ يا حبيبةَ جَدتكِ. خَرَجتْ جدتي وهيَ تُرتبُ 《غُترَتِها》فوقَ رأسِها وقبلَ أن تُغلقَ البابَ صرخت قائلةً : أرضعي الصغيرةَ واحرصي على تدفئتها . وأمسكتُ بيدها وبدأنا بالمسيرِ بإتجاهِ بيت جدتي وأخذتُ أسألها كالعادة : جدتي ، كانت أُم إِبراهيمَ تُريدُ صَبيًا ، وها هيَ أَنجبت بنتًا ، ماذا ستفعلُ الآنْ ؟ هل سَتَكرهُها أَم سَتحبها ؟ ماذا سَتُسَميها ؟ وجدتي صامتةً ، شعرتُ وأَنا أُمسكُ بيدها بِبرودةٍ تتسللُ إِلى يَدي ، وَبرعشةٍ في تلك الأَناملِ التي أعشقُ تفاصيل تجاعيدها . نَظَرتْ إِليَّ بعد صمتها وقالت : دَعينا نجلسُ عند تلك الصخرةِ قليلًا  لآخُذَ قسطًا من شُعاعِ الشمسِ ، فلقد كانت أُمَ إبراهيمَ متعسرةَ الولادةَ ، وأمضيتُ في بيتها الرطبِ وقتًا طويلًا قبل أَن يَشُقَ الفجرُ نوره . أَمسكتُ بيدِ جدتي إِلى أَن جلست وهي تُتَمتِمُ داعيةً ليّ ، كم أَنا محظوظةٌ بكنفكِ جدتي ، وهي تعلمُ أَني أَزهو وأَفتخرُ باصطحابها لي أَينما تذهب . هَرعتُ وجَلَستُ بجانبها ، كانت أنفاسُ جدتي على غير عادتها ، شعرتُ أنها تأخذُ أَنفاسها بصعوبةٍ ، وكانت يداها ترتجفانِ ، نَظَرتْ إليَّ متفحصةً ، ما بكِ يا حبيبتي؟  
أنا ...لا شيء ، لكنني آراكِ متعبةً يا جدتي فأَنفاسُكِ لاهثةً ، ويداكِ باردتانِ ، جدتي هل أَنتِ بخيرٍ ؟ لَم يَشُدني سوى عينا جدتي اللتانِ كانت تُحدقُ بهما في وجهي ، نَفرت الدموعُ من عينيَّ لا أَدري لماذا...لا أَدري هل هِيَ حقًا جدتي التي كانت قبل سُويعاتٍ تصرخُ في وجهِ نساءِ الحي؟ هل هي نفسها من تَصولُ وتَجولُ في القريةِ والصغيرُ والكبيرُ يُحبها ويُقَدرها ويُثني على تصرفاتها وأَخلاقها التي تحتفظُ بها رَغمَ تَقدمِ سنها. سَحبت جدتي يدها من بين أَصابعي الصغيرة وأخذت تمسحُ دُموعيَ قائلةً :  لِمَ تَبكينَ يا نعيمةُ ؟ لا تخافي فأنا بخير ، بخير . 
جدتي لِمَ تُغمضينَ عَيناكِ ، جدتي أُنظري إِلي ، أَوَلستُ حفيدَتُكِ المدللةُ ؟ قَبِليني ، أَجلسيني على حِجرِكِ ، ضعي رأسيَ على صدركِ ، فانا أرى الحياةَ بين يديكِ ، جدتي انتظريني سأذهبُ لأُحضرُ أبي لن أُطيلَ ذَهابي سَأَعودُ قريبًا ، هرعتُ مسرعةً أَركضُ وأَركضُ ، لم أَشعر بطولِ الطريقِ التي قطعتها ، ولم ألتفتَ لفردةِ حذائيَ اليمنى التي سقطت مني ، كم آلمتنيَ تلك الحُصياتُ التي تعثرتُ بها ، لكنني لم ألتفتُ لهذه التفاصيلُ ، فالمهمُ أَنْ أَصِلَ لأبي . أثناءَ ركضِيَ لم تغب صورةُ جدتي عن مُخيلتي ، وهذا ما شدني لأَن أُسرعَ ، وأخيرًا لقد وصلت ، وها هو أبي يجلسُ أَمامَ البيتِ يَحتَسي الشايَ مع مجموعةٍ من رجالِ الحي ، وما أن شاهدني أَركضُ وأصرخُ ، هَرع إليَّ أمسكني ، أصبحتُ أُرفرفُ كَالطائرِ المذبوحِ ، لا أَقوى على الكلامِ أَو الصراخِ ، وأَنفاسيَ تكادُ تَخنقني ، أَخذ أبي يحتضنني قائلًا : اهدأي ، اهدأي بُنيتي ما بكِ؟ هل سَقطتِ أرضًا ؟ هل ضَربَكِ أَحدُ الصبيةِ ؟؟ 
 جدتي ، جدتي يا أبي تركتها جالسةً عند الصخرةِ ، لكنها متعبةٌ ، متعبةٌ جدًا يا أبي . أَمسكتُ بيدِ أَبي ، ومشى رِجالُ الحيِ خلفنا للإطمئنانِ على جدتي ، في كلِ خطوةٍ كُنا نخطوها كنتُ أُلحُ على أَبي أَن يُعجلَ في مشيَتِهِ ، وما أَن وصلنا ، صرختُ هناكَ ، هناكَ يا أَبي تلك هي جدتي ، كان قد تجمعَ حولها بعضٌ من أَطفالِ القريةِ ، ولفيفٌ من النساءِ والرجالِ ، أَخذتُ أَقفزُ في مكاني ، ابتعدوا ، إبتعدوا ....
 دخلتُ من بينِ المتجمهرينَ ووصلتُ إليها ، لكنها لم تكن كذلكَ ، فلقد رايتُ وجهها بنقاءِ البدرِ ليلةَ اكتماله ، وتلكَ الأجفانِ الذابلةِ لم تعد كذلك ، أَمسكَ والدي بيدِ أُمهِ وأَخذَ يُقبلها ، وها هو يَتَحَسسُ جبينها وَيمسحُ قطراتِ العرقِ عن وجهها ، رأيتُ والدي كما لو كانَ للوهلةِ الأُولى يرى أُمه ، يهمسُ في أُذنها تارةً ويُقبلها تارةً أُخرى ، رأيتُ رجالَ الحيِّ تُربتُ على كاهلِ والدي عندها استشعرتُ بغصةِ أَلمِ الفراقِ ، وأخذتُ أصرخُ لا لا يا أَبي ، لا تدعهم يقولونها ، فجدتي ليّ ولن يأخُذَها مني أَيَ أحد ، إبتعدوا ، إبتعدوا جميعكم ، أخذتُ أُمسكُ بيدِ جدتي لأَستفيقها إنهضي إنهضي يا جدتي ، إنهضي واصرخي بهم فالكل يَهَابك ، أَفيقي فهناكَ الكثيرُ من النسوةِ الآتي لم يأتيهنَ المخاضُ بعد ، لكنْ لا حِرَاكَ . حَضرت أُمي ، وَتَجمعت نساءُ الحيِّ ، رأيتُ تلكَ المرآةُ كيف غَصت بالبكاءِ ، وَهرولتْ إِلى بيتها القريبِ وأَحضرت غطاءً أبيضاً وناولتهُ لأُمي ، تقدمت أُمي بِخُطى راجفةً ، وأَسدَلتْ الغطاءَ فوقَ جدتي ، وأَشارت لوالدي بحملها إِلى البيتِ ، وأَنا أُشاهدُ كُلَ هذه الأَحداثَ شاخصةً ببصريَ في هذه الوجوهِ الحزينةِ التي تَتَألمُ على فِراقِ جدتي . وفجاءةً، جَذبني ذلكَ المشهدَ الذي قامَ فيه والدي بِحَملِ جدتي بين ذراعيهِ ، ودارت رَحىْ الأَيامُ في مُخيلتي ، فَكم من الأَيامِ حُمِلتَ يا أَبي على ذراعيها ، وكم من اللياليََ التي سَهِرتها وتَحملت وكابدت مشقةَ الحياةِ على كاهِليها ، وَها هي الآن كَطفلٍ رضيعٍ يُحملُ بينَ ذِراعيّ والدهِ ، حريصًا كُل الحرصِ على سلامتهِ . توجهَ والدي نحو البيتِ ، وسارَ خلفهُ كُلَ من حَضر ، وَمشيتُ بجانبهِ ممسكةً بيدِ جدتي المنسدلةِ من جانب أَبي ، أتحسسُ تجاعيدها ، أُلآمسُ شِغافَ الزمنِ ، مدغدغةً ذلكَ الحنانَ الذي فَقدتهُ منذ هذا اليوم ، ومع اقترابنا لبيتِ والدي أَخذتُ أقفزُ أمامهُ وأَصرخُ ، ضعها يا أبي ، أُتركها تمشي معنا ، جدتي بخيرٍ صدقني ، هي أرادت أَن تُدَفءَ عِظامَهَا تَحتَ أَشعةِ الشمسِ ، وازدادت عبراتُ والدي ، وهمسَ قائلًا : اصمتي يا وجعيَ ، فلا أَدري كيفَ سأُقنعكِ بوفاةِ جدتكِ ؟؟؟ لا تَقُلها يا والدي ، جدتي بخيرٍ وقد أَنجبت أُم إبراهيمَ للتوِ على يداها ، إِسأَلها وَسَتخبركَ . نَظَرتُ إِلى من يمشي معنا ، فالكلُ  يبكي جدتي ، وَرأيتُ بعضًا من الأفواهِ تُتَمتمُ بِعباراتٍ حزينة ، فلقد كانت جدتي ركيزةً من ركائز قريتنا ، فالكلُ يدعوا لها بالرحمةِ ، والكلُ حزينٌ يا جدتي ، لكن لا حُزنًا يُضاهي حُزني ، فأَنا اليتيمةُ بفقدكِ الآنَ جدتي ولا أَحدَ سِوايْ .
قام الجميعُ بمساعدةِ والدي في كُلِ ما يلزمُ من تحضيرِ الميتِ لِمواراتهِ الثرى ، وأنا جالسةٌ على عَتبةِ بيت جدتي أَحتضنُ حِذاءَها الذي أزالتهُ أُمي من قَدميها عند تغسيلها ، وها هم يذهبونَ لِمواراتِها في مقبرةِ القريةِ ، شعرتُ بِثقلٍ في قدمايَ، تَسَمرتُ في مكانيَ وَلم أَقوى على اللحاقِ بالجنازةِ ، وعلا صَوتُ بُكائيَ وأنا أرى جدتي تَعلو الأكتافَ ، أَخذتُ أُلوحُ لها من بعيدٍ ، والأَلمُ يعتصرُ مُهجتي، فلا جَدةَ لِيَّ بعد اليومِ. ومضى من الوقتِ ما مضى ، وعادَ الجميعُ بعد أَن تَمت مُوارةِ جُثمانُ جدتي في مَقبرةِ القريةِ . ذَهبَ الجميعُ إِلى بيتِ والدي لمواساتهِ ، ولم أَدري لماذا راودني شُعورٌ بالدخولِ إلى بيتِ جدتي ، فَتحتُ البابَ ودخلتُ ، وها أَنا للوهلةِ الأُولى أَشتمُ رائحتها في أرجاءِ البيتِ ، في أَدقِ تفاصيلِ بيتها هي موجودةٌ ،  ذهبتُ إلى السريرِ حيثُ كنا نتشاركُ  المبيتَ ، لا زالت رائِحتُها تَلتَحفُ الفراشَ ، أَخذتُ أَتحسسُ الفِراشَ وأُربتُ على وِسادتها ، فإِلى أَين ذهبتِ وتَركتِني يا حُضنيَ الدافئ؟
 لن أَدعَ أحدًا يدخلَ البيتَ يا جدتي ، حتى لا تختلطَ روائِحَهم برائحتكِ فيختفيَ شذا عبيركُ ، سأَظلُ هنا لتظل ذكراكِ محفورةً بداخلي حتى النخاع ، ولن أَنسَ يومًا من الأيامِ بأننيَ كنتُ المحظوظةَ بِرفقَتَكِ وَمحبتكِ . وها أنا ولا شعوريًا أَرفعُ الغِطاءَ لَأندسَ مكانيَ على سريرِ جدتي ، وأَغفو وَعَبراتيَ تَحرقُ وَجنتيَ ، حالمةً أَن أَستفيقَ على وقع خُطى جدتي نعيمةَ ، ورائحةَ قهوتِها ، وَتوليفَةَ الطعامِ الذي تُنَكهَهُ بزيتِ الزيتونِ ، ونبرةُ صوتِها ، عَلَّ هذا الواقعِ ينقلبُ حُلمًا مزعجًا أستفيق منه غدًا ... جدتي تصبحينَ على خيرٍ ، فلن أنساكِ يا وطنًا لحضنٍ لا وطنَ لهُ.
 ولم أَشعر كيفَ غفوتُ ، وفجاءةً شعرتُ بيدٍ دافئةٍ تداعب وجنتي ، وصوتًا يناديني أَفيقي يا نعيمةُ ، أَفيقي لنتناولَ الفطورَ ، فتحتُ عينايَ وإذ بها جدتي تَستَفيقُني ، فَزِعتُ من مكانيَ ، صرختُ بكيتُ فركتُ عينايَ مراتٍ ومراتٍ ، هِيَ هِيَ جدتي ، أخذتْ جدتي تُمسِكَني ، وتَحتَضِنَنَي  وتذكرُ اسمَ اللهِ على رأسيَ ، ما بكِ يا صغيرتي؟ وتَملكَتنيَ الدهشةُ ، أأنتِ بخيرٍ جدتي؟ أنا لا أُصدقُ ، نعم بخيرٍ يا نعيمة ، وكعادتكِ كُنتِ تحلمينَ أليسَ كذلكَ ؟ أَخذتُ أقفزُ فَرحةً فوقَ السريرِ ، الحمدُ للهِ ، لقد كان حلمًا مزعجًا يا جدتي ، فأمُ إبراهيمَ وولادتها حلمًا ، وتلكَ المرأةُ السمينةُ التي داست أَصابعَ يَديّ بِقدميها كانت حلمًا ، وهزلُ جَسدكِ حلمًا وموتُكُ والجنازةُ والبكاءُ كلها حُلمٌ حُلمٌ يا جدتي ، أَخذتْ جدتي تضحكُ كعادتها وتداعبُ ضَفائِري قائلةً : ويتعجبونَ من حُبي لَكِ يا نعيمةُ!!!!!! 
كم أُحبكِ يا صغيرتي....       
                    
                        🇵🇸    بقلم:حلا لافي🇵🇸

                              🇵🇸فلسطين 🥰 الخليل 🇵🇸 

ليست هناك تعليقات: