وَداعًا يا أُماهُ.
--------------
بقلم الأديبة : عبير محمود أبو عيد
فلسطين - القدس
-----------------------------------
عاشَ ثائِرٌ مَعَ أُمِّهِ الأَرمَلَةِ في بَيتٍ مُتَواضِعٍ في أَطرافِ قَريَتِهِمِ الجَميلَةِ. إِنَّهُ يَذهَبُ كُلَّ صَباحٍ إِلى مَدرَسَةِ القَريَةِ، وَحُلُمُهُ أَنْ يُصبِحَ ضابِطًا في الجَيشِ.
- أَمَلي يا وَلَدي أَنْ أَراكَ ضابِطًا وَعَلى كَتِفِكَ الأَيمَنِ ثَلاثُ نَجماتٍ وَسَيفٍ. أُريدُكَ أَنْ تَثأَرَ لِوالِدِكَ الشَّهيدِ حَسَنَ الّذي استُشهِدَ وَهُوَ يُدافِعُ عَنْ فَقَراءِ القَريَةِ. كانَ والِدُكَ ذا عِزَّةِ نَفسٍ وَكَرامَةٍ عالِيَةٍ.
- مَنْ قَتَلَ والِدي يا أُمّي؟
- سَتَعرِفُ يا بُنَيَّ عِندَما تَكبُرُ، وَفي يَومِ تَخَرُّجِكَ مِنْ كُلِّيَّةِ الشُّرطَةِ، سَأُهديكَ المُفاجَأَةَ الّتي عِشتُ وَأَعيشُ مِنْ أَجلِها.
وَكانَتْ أُمُّ ثائِرٍ تَعمَلُ طاهِيَةً عِندَ السَّيِّدَةِ "رُقَيَّةِ"، صاحِبَةِ القَصرِ الّذي يُجاوِرُ بَيتَ ثائِرٍ وَوالِدَتِهِ. إِنَّها تَطبُخُ الطَّعامَ اللَّذيذَ لِلسَّيِّدَةِ رُقَيَّةِ وَصَديقاتِها. وَلَمْ تَكُنْ "رُقَيَّةُ" تَبخَلُ عَلى أُمِّ ثائِرٍ لا بِالمالِ وَلا بِالطَّعامِ.
- انظُرْ يا ثائِرْ، لَقَدْ أَحضَرتُ لَكَ ثِيابًا جَديدَةً سَتَرتَديها عَلى العيدِ بِإِذنِ اللهِ تَعالى، ثُمَّ تَذهَبُ وَأَنتَ تَرتَديها إِلى المَدرَسَةِ. إِنَّ اللهَ سُبحانَهُ وَتَعالى قَدْ بَعَثَ لَنا هذِهِ السَّيِّدَةَ الفاضِلَةَ الّتي تًساعِدُنا. أَدعو اللهَ أَنْ يَمُدَّ في عُمرِها وَيُعطيها مِنْ فَيضِ نَعَمِهِ.
وَمَرَّتِ الأَيّامُ سَريعَةً، وَكَبُرَ ثائِرٌ وَأَنهى الثّانَوِيَّةَ العامّةَ، وَدَخَلَ كُلِّيَّةَ الشُّرطَةِ.
- كَمْ أَنا سَعيدَةٌ يا وَلَدي يا ثائِرُ، فَاليَومَ هُوَ يَومُ تَخَرُّجِكَ. أَنتَ الآنَ حَضرَةُ الضّابِطِ ثائِرُ، وَيا لَيتَ والِدَكَ الشَّهيدَ حَسَنَ مَعَنا.
- يا أُمَّ الضّابِطِ ثائِرًا, أَينَ هِيَ المُفاجَأَةُ الّتي وَعَدتيني فيها؟
وَذَهَبَتْ أُمُّ ثائِرٍ إِلى الخِزانَةِ، وَأَخرَجَتْ مِنها البُندُقِيَّةَ.
- هذِهِ البُندُقِيَّةُ يا وَلَدي يا ثائِرُ هِيَ بُندُقِيَّةُ والِدِكَ، وَأُريدُكَ أَنْ تَجعَلَها حَبيبَتَكَ وَرَفيقَتَكَ. لَقَدْ قَتَلَ الأَعداءُ والِدَكَ؛ لِأَنَّهُ أَرادَ المُحافَظَةَ عَلى أَرضِهِ وَأَراضي رِفاقِهِ. اذهَبْ يا بُنَيَّ، وَاجمَعِ الرِّفاقَ، ثُمَّ اذهَبوا إِلى هُناكَ، إِلى الأَراضي خَلفَ الجَبَلِ الشَّمالِيِّ. أَعيدوا الأَراضي إِلَينا؛ فَالإِنسانُ بِدونِ أَرضِهِ جَسَدٌ دونَ روحٍ. اذهَبْ يا بُنَيَّ وَعَينُ اللهِ تَرعاكَ أَنتَ وَرِفاقُكَ.
أُمُّ ثائِرٍ، أُمٌّ كَكُلِّ الأُمَّهاتِ، وَهذا وَلَدُها وَحيدُها سَيَترُكُها لاستِرجاعِ أَرضِهِ وَأَراضي الفُقَراءِ مِنْ أَبناءِ قَريَتِهِ. نَعَمْ، وَالِدَتُهُ غالِيَةٌ عَلَيهِ، وَلكِنَّ تُرابَ الوَطَنِ أَغلى بِكَثيرٍ.
وَمَرَّ شَهرٌ وَأَشهُرٌ بَلْ وَسَنَواتٌ وَلَمْ يَعُدِ الضابِطُ ثائِرٌ وَلا رِفاقُهُ. وَها هِيَ أُمُّ ثائِرٍ قَدْ كَبُرَتْ وَجاوَزَتْ السَّبعينَ مِنْ عُمرِها. تَمشي وَهِيَ مُتَّكِئَةٌ عَلى عَصاها، وَتارَّةً تَراها تَفرَحُ وَتَضحَكُ، وَتارَّةً تَلبَسُ السَّوادَ وَتَبكي. وَمِمّا زادِ مِنْ حُزنِها وَفاةُ صاحِبَةِ القَلبِ الطَّيِّبِ السَّيِّدَةِ "رُقَيَّةَ"، وَباعَ وَرَثَتُها القَصرَ لِمُغتَرِبٍ بَخيلٍ يَأْتي لِلقًصرِ في أَشهُرِ الصَّيفِ فَقَطْ.
وَفي يَومٍ صَيفِيٍّ حارٍّ جِدًّا، سَمِعَتْ أُمُّ ثائِرٍ هُتافاتٍ وَزَغاريدَ مِنْ أَقصى القَريَةِ. وَقَفَتْ بِسُرعَةٍ وَاتَكَأَتْ عَلى عَصاها وَهَروَلَتْ نَحوَ بابِ بَيتِها. نَعَمْ، ها هُوَ ابنُها الضّابِطُ البَطَلُ ثائِرٌ مَحمولًا عَلى أَكتافِ رِفاقِهِ، الّذينَ يُنشِدونَ أَناشيدَ النَّصرِ وَالفَرَحِ بِاستِرجاعِ جَميعِ الأَراضي وَدَحرِ الأَعداء. لَقَدْ رَأَتهُ مِنْ بَعيدٍ، فَما لَها وَلِلحَياةِ بَعدَ هذا المَنظَرِ السَّعيدِ. دَخَلَ ثائِرٌ إِلى البَيتِ، وَرَأَى والِدَتَهُ مُمَدَّدَةً عَلى الأَرضِ وَقَدْ فارَقَتِ الحَياةَ. اقتَرَبَ مِنها وَاحتَضَنَها، وَقالَ، وَالدُّموعُ تَملَأُ عَينَيهِ : "وَداعًا يا أُمّاهُ".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق