الأربعاء، 14 سبتمبر 2022

قصة قصيرة بعنوان{{الوَحمَةُ}} بقلم الكاتبة والقاصّة الفلسطينية القديرة الاستاذة {{ عبير محمود أَبو عيد}}


 الوَحمَةُ.
بقلم الأديبة : عبير محمود أبو عيد. فلسطين - القدس
يَعيشُ الطالِبُ الجامِعِيُّ رَأْفَتُ سُهيلُ البَحصَلِيُّ مَعَ والِدَيْهِ وَأَخيهِ المُحامي طَلعَتُ وَأُختِهِ المُهَندِسَةِ ثَروَتُ في فيلا أَنيقَةٍ في شارِعِ الحَمراءِ، وَهُوَ طالِبٌ في السَّنَةِ الأَخيرَةِ في كُلِّيَةِ التِّجارَةِ والاقتِصادِ في جامِعَةِ بَيروتَ العَرَبِيَّةِ. لِوالِدِهِ مَحَلاتُ حَلَوياتٍ ضَخمَةٍ في بَيروتَ وَطرابُلُسَ وَصيدا وَصورَ وَسائِرِ المَدَنِ اللُّبنانِيَّةِ.
- رَأْفَتُ، غَدًا سَنَصعَدُ للتَّصييفِ في بَيتِنا الجَميلِ في الجَبَلِ، فَأَرجو مِنكَ أَنْ تُرَتِّبَ حَقيبَتَكَ مِنَ اليَومِ.
- مَعذِرَةً يا أُمّي، فَأَنا لَنْ أَذهَبَ مَعَكُمْ. لَقَدْ وَعَدتُ زُمَلائي في الجامِعَةِ أَنْ نُسافِرَ أُسبوعًا إِلى طَرابُلُسَ لِنَسبَحَ وَلِنَصطادَ السَّمَكَ.
- حَسَنًا، وَبَعدَها سَتَلحَقُ بِنا إِلى الجَبَلِ.
- نَعَمْ يا أُمّي، سَأَكونُ عِندَكُمْ بَعدَ حَوالي الأُسبوعِ.
وَفي صَبيحَةِ اليَومِ التّالي، سافَرَ رَأْفَتُ مَعَ زُمَلائِهِ إِلى طَرابُلُسَ، وَنَزَلوا في بَيتِ والِدِ رَأْفَتَ الكَبيرَ والواسِعَ وَالّذي يُطِلُّ مُباشَرَةً عَلى البَحرِ. قَضى رَأْفَتُ يَومَهُ الأَوَّلَ في السِّباحَةِ وَصَيدِ السَّمَكِ. وَبَعدَ أَنْ صَلّى العِشاءَ جَماعَةً مَعَ زُمَلائِهِ، جَلَسَ مَعَهُمْ عَلى الشُّرفَةِ يَتَحَدَّثونَ وَيَتَسامَرونَ وَيَأْكُلونَ ما لَذَّ وَطابَ مِنَ الفَواكِهِ بِالإِضافَةِ إِلى صَحنٍ كَبيرٍ وَشَهِيٍّ مِن حَلوى زُنودِ السِتِّ المَشهورَةِ في طَرابُلُسَ، وَهِيَ مِنَ المَحَلِ الّذي يَملِكُهُ والِدُهُ.
وَلَفَتَ انتِباهَ رَأْفَتُ فَتاةٌ تَجلِسُ عَلى شاطِىءِ البَحرِ، وَتَلعَبُ بِخُصلاتِ شعرِها الطَّويلِ حالِكِ السَّوادِ. استَأْذَنَ مِنْ أَصدِقاءِهِ وَنَزَلَ لِيَراها، وَلَكِنَّها لَمْ تَكُنْ تَجلِسُ عَلى الكُرسِيِّ، فَبَحَثَ عَنها وَعِندَما لَمْ يَجِدها رَجَعَ إِلى البَيتِ. هُوَ يَحلُمُ بِالتَأْكيدِ، فَرُبَّما هِيَ حورِيَّةٌ مِنْ حورِيّاتِ البَحرِ اللّواتي نُشاهِدهُنَّ في التِّلفازِ.
استَيقَظَ رَأْفَتُ في اليَومِ التّالي قَبلَ أَذانِ الفَجرِ بِقَليلٍ، وَصَلّى صَلاةَ التَّهَجُدِ، وَأَخَذَ نَفسَهُ في وَصلَةٍ مِنَ الاستِغفارِ، رَيثَما يَحينُ مَوعِدُ صَلاةِ الفَجرِ. ذَهَبَ نَحوَ الشُّرفَةِ، فَمَنظَرُ السَّماءِ والبَحرِ في تِلكَ اللَّحَظاتِ جَميلٌ جَدًّا.
- يا اللهُ! إِنَّها الفَتاةُ نَفسُها الّتي شاهَدتُها بِالأَمسِ. إِذَنْ هِيَ لَيسَتْ حورِيَّةٌ وَلا أَنا أَحلُمُ. بَعدَ صَلاةِ الفَجرِ، سَأَنزِلُ إِلى الشَّاطِىءِ وَأَتَحَدَّثُ مَعَها.
نَزَلَ رَأْفَتُ إِلى الشاطِىءِ بَعدَ أَنْ صَلّى الفَجرَ، وَاقتَرَبَ مِنَ الفَتاةِ الّتي لَمْ تَأْبَهْ بِقُدومِهِ. كانَتْ تَنظُرُ تارَّةً نَحوَ البَحرِ وَتارَّةً نَحوَ السَّماءِ وَدُموعُها الغَزيرَةُ تَتَدَفَّقُ مِن عَينَيها كَالشَّلالِ.
- السَّلامُ عَلَيكُمٍ يا أُختاهُ. لِماذا تَجلِسينَ هُنا في هذا الوَقتِ المُبَكِّرِ؟ وَلِماذا كُلُّ هذِهِ الدُّموعُ؟
- وَعَلَيْكُمُ السَّلامُ وَرَحمَةُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ. هَلْ جِئتَ للتَّنَمُّرِ عَلَيَّ مِثلَهُمْ؟ هَلْ شاهَدتَ الوَحمَةَ عَلى أَنفي لِتَزيدَ مِنْ حُزني أَكثَرَ؟ قُل ما عِندَكَ، فَأَنا لَمْ أَعُدْ أَهتَمُّ.
- لا يا أُختاهُ، فأَنا لَمْ أَقصِدْ إِزعاجَكِ. أَنا الطّالِبُ الجامِعِيُّ رَأْفَتُ سُهيلُ البَحصَليُّ، وَفَدْ جِئتُ مَعَ زُملائي مِن بَيروتَ لِلسِّباحَةِ وَلِلصَّيدِ.
- دَعني وَشَأْني أَرجوكَ، وَشُكرًا عَلى اهتِمامِكَ بِفَتاةٍ تَعيسَةٍ وَحَزينَةٍ مِثلي.
- لَنْ أَترُكَ مَكاني وَلَنْ أَدَعَكِ تَترُكينَ المَكانَ حَتّى أَعرِفَ قِصَّتَكِ أَيَّتُها الفَتاةُ.
- حَسَنًا، سَأُخبِرُكَ بِكُلِّ شَيءٍ. لَقَدْ تَرَبَّيتُ في مَلجَإِ نَهرِ البارِدِ ، فَأَنا لا أَعرِفُ والِدايَ وَلا مَنْ هُمْ أَهلي. تَلَقيتُ تَعليمي في مَدرَسَةِ الأَمَلِ التّابِعَةِ لِوِكالَةِ غَوثِ وَتَشغيلِ اللّاجِئينَ. وَعِندَما بَلَغتُ السّادِسَةَ عَشرَةَ مِن عُمري، طَرَدوني مِنَ المَلجَإِ بَعدَما أَنهَيتُ الثّانَوِيَةَ العامَّةَ. استَأْجَرتُ كوخًا صَغيرًا هُنا، وَعِشتُ مِنَ السَّمَكِ أَصطادُهُ وَأَبيعُهُ فَأُسَدِّدُ أَجارَ الكوخِ وَآكُلُ كِسرَةَ الخُبزِ المَعجونَةِ بِالدُّموعِ وَالآهاتِ وَالأَحزانِ. وَكَيْ يَزيدَ اللهُ مِنْ شَقائي، خُلِقتُ مَعَ وَحمَةٍ في أَنفي، وَكَثيرًا ما تَنَمَّرَ عَلَيَّ النّاسُ سَواءٌ في المَلجَإِ أَو في المَدرَسَةِ أَو في الشّارِعِ. لَيسَ لي أَحَدٌ سِوى اللهُ، وَعِندَما تَراني هُنا أَشكو لِرَبِّ السَّماءِ هَمّي وَأَبكي.
وَعادَ زُمَلاءُ رَأْفَتَ إِلى بَيروتَ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَعُدْ. بَحَثَ عَنهُ أَهلُهُ كَثيرًا، وَوَجَدوهُ بَعدَ شَهرٍ يَعيشُ مَعَ صاحِبَةِ الوَحمَةِ في كوخٍ صَغيرٍوَقَد تَزَوَّجَها. لَقَدْ تَنازَلَ عَن كُلِّ شَيءٍ مِنْ أَجلِ بَسمَةٍ أَو ضَحكَةٍ تَملَأُ وَجهَ زَوجَتِهِ أَسماءُ الّتي أَحبَّها وَبِصِدقٍ وَمِنْ كُلِّ فُؤادِهِ.
بَقِيَ أَنْ تَعرِفوا، أَنَّ والِدَ رَأْفَتَ قَدْ سَجَّلَ أَسماءَ في جامِعَةِ بيروتَ العَرَبِيَّةِ لِتَدرُسَ الطِّبَ، وَقَدْ تَخَصَّصَتْ في عَمَلِيّاتِ التَّجميلِ. وَهِيَ الآنَ تَعيشُ مَعَ زَوجِها الغالي أَبا سُهيلٍ البَحصَلِيِّ في بَيتِهِمْ في كورنيشِ المَزرَعَةِ. الآنَ لِأَسماءَ عائِلَةٌ جَديدَةٌ تُحِبُّها وَتَحتَرِمُها هِيَ : عائِلَةُ البَحصَلِيِّ.

ليست هناك تعليقات: