السبت، 27 يناير 2024

ج(الرابع) من قصة {{لن تشرق الشمس أبدا}} بقلم الكاتب القاصّ الأردني القدير الأستاذ{{تيسيرالمغاصبه}}


 (لن تشرق الشمس أبدا )

     قصة متسلسلة 
 بقلم: تيسيرالمغاصبه 
           ٢٠٢٤
------------------------------------------------------
          -٤-
 الشيخ عبد الكريم 

في الصباح الباكر إنتعل يحيى حذاءه للمغادرة مستغنيا عن الأيام المتبقية له في منزل أخته ساره ،حيث الطعام اللذيذ ،والشاي بنكهة نعنع القناة الذي يقدم في جميع الفترات.
وذلك كله غير متوفر في منزل أسرته بسبب سوء الحال.
رأته أخته وهو على غير العادة يريد الخروج حتى قبل تناولة الإفطار المكون من الدبس والمقدوس والحمص ومعقود التين والزعتر والزيت ،والبيض المسلوق، والبطاطا المقلية بالسمن البلدي الذي يحبها، وقالت له:
-على وين يامسهل ،هو هذا وقت لعب يايحيى ،متقعد تفطر أول إشي وبعدين بتروح تلعب ،ملحق ؟
جائت نظرة عينيه العاتبة بعيني غروب، 
 وقال لأخته:
-أنا مش رايح ألعب ..أنا  بدي أروح على الدار؟
قالت وهي لاتزال مستغربة :
-طيب روح ..مع السلامه ؟
يسير يحيى قاطعا طريقه الطويل بين الصخور حتى وصل إلى أول البساتين والحقول والقناة .
يمر به الشيخ عبد الكريم الذي يراه لأول مرة بينما كان يبحث عن بعض الأعشاب الطبية ، نظر إليه مبتسما بحنو  وهو مبهور بجماله ،فيبادله يحيى إبتسامة إن دلت على شيء  فأنها قد دلت على الألفة والراحة التي لم يشعر بها تجاه أي رجل في القرية ؛ولا حتى تجاه أبيه، لكن يحيى لم يعلم أنه قد دخل إلى قلب  الشيخ عبد الكريم منذ تلك اللحظة ودون إستئذان. فردد وهو يتأمله :
-سبحان من خلق وصور ..سبحان الله العظيم ؟
فيقول وهو يمد يده مصافحا:
-السلام عليكم يايوسف؟
يرد يحيى.
-أهلين؟
-كيف حالك.
-انا مليح..بس انا اسمي يحيى مش يوسف؟
يبتسم الشيخ عبد الكريم ثانية وهو يرفع يده  الصغيرة إلى فمه  ويقبل  ظهرها ومن ثم ينحني مانحه قبلة أخرى على رأسه :
-لقد وصفتك بيوسف لجمالك تشبيها بالنبي يوسف الذي عرف بجماله؟
-يعني أنت بتقول إني أنا حلو.
-وألديك  شك في ذلك أيها الملاك الصغير؟
-ماحدى قلي هذا الكلام في البيت ..حتى همو بكرهوني ،وبقولو عن عيوني الزرق إنهن فال شر.
قال الشيخ عبد الكريم مستفهما:
-أنت ولد من يا يحيى؟
-أنا ولد ابو عبدالله.
-نعم ..نعم فهمت ..إسمع يايحيى؟
-إيش.
-عندما يقل لك أحد السلام عليكم بماذا يجب عليك أن ترد عليه ؟
-بقول ..بقول السلام عليكم.
-ههههههه لا..يجب أن ترد وعليكم السلام ؟
-وعليكم.. السلام.
-أحسنت؟
فرح يحيى كثيرا للكلام الجميل الذي تعلمه وكرر:
-وعليكم...السلام؟
-باركك الله ،حسنا سأغادر الأن ياصديقي يحيى السلام ..عليكم؟
-وعليكم السلام. 
وغادره الشيخ عبد الكريم تاركا رائحة عطره عالقة به وبالمكان. 
تابع يحيى سيره وهو يردد :
-السلام عليكم..وعليكم السلام. 
* * * * * * * * 
الشيخ عبد الكريم لم يكن من أهل القرية، وهو أيضا لم يكن عربي ، وكان لايقارن برجال القرية بفضل أخلاقه الحسنة التي عرف بها ووجهه الأبيض الذي يشع نورا ،وشعره الناعم كالحرير والمنسدل على كتفيه،ورائحة الطيب التي تفوح منه ، فقد كان يتشبه بالنبي ويقتدي به بكل شيء.
تزوج في سن الثامنة عشر ليحفظ نفسه ،رزقه الله بولد ذكر ،أحبه حبا جما ،لكنه وبعد ست سنوات من الزواج يبتليه الله بفقدان زوجته وإبنه بحادث سير مروع،ويحزن حزنا لايوصف ،ويقررألا يعيد الكرة ثانية، ويترك بلده ليهرب بعيدا، فتقوده قدميه إلى القرية الضائعة لينشىء فيها مسجدا ويصبح شيخ القرية ومفتيها بالرغم من قلة المصلين فيها.
الأن وقد بلغ الأربعين من عمره وهو لايزال  مكرسا نفسه للعبادة والدعوة في قرية الفسق ..القرية الضائعة،لعل الشمس تشرق عليها يوما.
لكن أكثر أهل القرية  ينظرون إليه كمجرد درويش، بعيد كل البعد عن الواقع المعاش ،بل وصل الجهل  ببعضهم بأن يصفونه بالكذاب لأن زمن الدين والتدين قد إنتهى "على حد قولهم"
* * * * * * * *
يحيى لم ينسى ماحدث معه في الليلة الماضية وإستغلال قريبته غروب له ،ماأن وصل ،وأصبح قريبا من منزل أسرته حتى نزع ثيابه وألقى بنفسه في أعمق بقعة في القناة لعله يزيل ماعلق بجسده من رائحة غروب.
بينما جسده الأبيض يلمع مع شروق الشمس ،لم يتنبه إلى أنه قد جذب جميع  فتيات القرية ليتجمعن قرب القناة وقد فتنهن دون أن يتنبه لذلك.
كانت كل فتاة تمر تر تجمع الفتيات، فتقترب لترى ماذا يحدث ،وما أن تر الملاك الغاطس في الماء حتى تقف وتنظر دون وعي منها  مفتونة به.
وعندما إنتهى يحيى من الاغتسال و أراد الخروج من الماء تفاجأ بأنه محاط بجميع فتيات القرية ،فبدأ يرتعش من الحياء ومن البرد ولم يستطع الخروج ،
مرت  عمته سلمى بالقناة وهي في زيارة إلى أسرته ،وعندما رأت تجمع الفتيات ..سألت إحداهن:
-إيش فيه يا ساميه ،ليش البنات متجمعات عند القناة؟
أجابت الفتاة  بنفاق كما وأنها لم تأخذ حصتها من النظر إليه :
-يعني على إيش بطلعو ياخاله..على يحيى وهو بتسبح؟
ماكان من عمته سلمى إلا أن رفعت  غصن شجرة وجرت إلى الفتيات تشوح به عليهن وتشتمهن بأقذع الشتائم حتى إنفضن من حوله.
ثم طلبت من يحيى الخروج من الماء ،خرج مترددا ،مرتبكا وهو يشعر بالحياء الشديد، ماأن ظهر أمامها بجسده المبتل حتى فتنها بسحره فكادت أن تنسى  حتى ماذا تكون صلتها به .
طلبت منه أن يرتدي ثيابه ،ومن ثم مشت معه إلى منزله.
* * * * * * * *
وسلمى هي عمته الثلاثينية المتزوجة من إبن عمها العسكري منذ سنة ،والذي يتطلب واجبه كعسكري الغياب  أيام عن منزله، وأن سلمى وعلى "حد قولها" تخاف أن تنم وحدها.
ولذلك كانت في كل يوم تطلب من أخيها إرسال أحد أولاده ليبات في دارها لمؤانستها في وحدتها.
وصل يحيى وهو بصحبة عمته إلى المنزل، وكالعادة لم تستقبله أمه بالقبل والضم كما تفعل مع بقية إخوته وأخواته الأخرين ،لكنها إطمأنت فقط على وجوده ،تناول حبة طماطم وكسرة خبز ليكون ذلك إفطاره لهذا اليوم. 
*  *  *  *  *  *  *  *
خرج يحيى للتجوال من جديد ،فأختار زقاق ضيق قاصدا تغيير المكان الذي إغتسل فيه وبالتالي نسيان تجمع الفتيات من حوله عندما كان يستحم.
رأى مياه قذرة  يبدو أنها مياه إغتسال ،كانت  مختلطة بالصابون تسيل بالقرب منه ،فتعجب لماذا المياه خارج البيوت كونه لم يسمع عن حفل زفاف، فسار متتبعا تلك المياه ليرى من أين مصدرها ،ليجد نفسه أمام تجمع لرجال القرية يقومون بغسل جثمان رجل مسجى على لوح خشبي قريب من نعشه  ،وقف في مكانه مذعورا وقد تجمد الدم في عروقه، فشعر  بالفزع الشديد، فأستدار وأخذ يجري عائدا من حيث أتى.
* * * * * * * *
في المساء كان يحيى ملتصقا بأمه وقد إزداد خوفه مع الظلام عندما حضرت عمته سلمى ثانية وطلبت من أخيها أبو عبدالله أن يرسل أحد الأولاد معها  لينام في دارها.
قالت فريال :
-روح معها ونسها ياعبدالله إنت أكبر واحد،بعدين اليوم دورك لاتنسى ؟
قال الأب :
-لا ،خلي يحيى هو إلي يروح معها هذه المرة؟
قالت فريال ضاحكة:
-يحيى.. منت عارف إنه بخاف أكثر منها؟
قال حاسما :
-أنا قلت خلي يحيى يروح..يعني خلي يحيى يروح ،لأني بدي لعيال لكبار بكره بدري يطلعو معي يساعدوني بالشغل،بعدين إحنا مش مستفيدين منه إشي دايما طاش برى وفاضحنا مع البنات؟
قالت فريال :
-طيب هو شو ذنبه إذا البنات وسخات؟
-وهو كمان وسخ من وساخة أمه.
شعر يحيى بتلك الطعنة المؤلمة لكنه كتمها في نفسه كالعادة.
بينما شعر جميع إخوته وأخواته بنشوة الانتصار. 
صمتت الأم بينما
قالت العمة:
-أنا أصلا بدي يحيى يجي معي ههههههه لثنين بنخاف وبنونس بعضنا؟
قالت الأم :
-خذيه مبروك عليكي .
وقف يحيى خجلا ،مترددا،وقالت عمته سلمى :
-لا يحيى زلمه ،يله معي يايحيى؟
فأمسكت سلمى بيد يحيى وسارت به إلى منزلها.

(يتبع....)
تيسيرالمغاصبه 
٢٥-١-٢٠٢٤

ليست هناك تعليقات: