(لن تشرق الشمس أبدا )
قصة متسلسلة
بقلم :تيسيرالمغاصبه
٢٠٢٤
الفصل الثالث
-------------------------------------------------------
-٢٩-
الجحيم والنعيم
بعد هزيمة العرب تزداد الاضطرابات فيتم إغتيال عبد اللطيف الزايدي على أيدي مجهولين.
فأصبحت جواهر المرأة الأولى بين النساء والرجال أيضا.
كانت جواهر وببراعتها وحنكتها تنتقل من منصب إلى منصب آخر أكبر ،لتصبح المرأة الوحيدة التي يشار إليها بالبنان ويقف الجميع أمامها برهبة وإحترام..بمعنى آخر المرأة الجبارة ،الحديدية؛ التي تستطيع الوصول إلى أي شخصية دون أن يعترضها أحد..لأنها امرأة بألف رجل.
لكن...
تبقى هذه المرأة أنثى ..
بل وأنثى فائقة الجمال ..
تحب ..وتتعلق ..وقد تضحي من أجل الحبيب.
بالصدفة وهي في منزلها ترتب خزانة ثيابها ترى ثياب يحيى عندما كان يقيم عندها أيام طفولته ومراهقته،ويخفق قلبها بشدة ..والحب لايموت أبدا..بل يكبر ويكبر مع مر السنين.
فتقول بشوق :
-يحيى...؟
فتنهض على الفور وترتدي ثيابها مقررة السفر برحلة سرية بعيدة..إلى قرية أم الملح،رحلة لاعلاقة لها بالعمل بعد أن كانت قد زارتها في السابق عند إختفاء يحيى أول مرة،حينها بحثت عنه ولم تجده..لكن اليوم قلبها أكد لها بأنها ستجده.
طلبت سائقها الخاص وأمرته بأخذها إلى قرية أم الملح.
وعندما وصلت وسألت عن يحيى أخبرها الجميع بأنه مجنون وقد أودع مصحة عقلية..بالرغم من فرحها الغامر بأمساك طرف الخيط الذي سيوصلها إلى يحيى إلا أنها غضبت من أهل قرية أم الملح لأنها كانت تعرف الكثير عنهم مسبقا.وقالت وهي تستعد للعودة:
-والله أنا شايفه إنو إنتو المجانين.
* * * * * * * * *
بعد أن لاحظ الجميع إقتراب الثلاثة يحيى ومأمون وغادة من بعضهم وتحدثهم إلى بعضهم بالهمس ،أكدوا لبعضهم بأنهم باتو خطرين ..مخربين،وقاموا بتشديد الحراسة عليهم ،وضيقوا عليهم الخناق ،بل وفصلوهم عن بعضهم.
كذلك بعد إكتشافهم لتقطيع أسلاك السياج، والأخطرما في الأمر أنهم أرادوا تدمير قوتهم والقضاء على عقولهم النيرة..الواعية بأسرع وقت.
وبليلة ظلماء يجدون أنفسهم منفصلين عن بعضهم وكل منهم سجين في مكان مظلم .
يتقدم مجموعة من الرجال الضخمين من يحيى ويقومون بتثبيته وحقنه بالمادة الخضراء ويقومون بجره إلى غرفة الكهرباء ..ويقول يحيى صارخا بضعف شديد:
-ليش موخذيني على الكهربه..أنا مش مشاغب ؟
قال كبيرهم بقسوة:
-إخرس ..إحنا مش موخذينك على الكهربه ..إحنا موخذينك على بلاط جهنم ..بتعرف بلاط جهنم ..إتحمل العذاب وأصبر ؟
وبالمثل في الأماكن الأخرى واجه أصدقاؤه مأمون و غادة.
وضعوا يحيى على السرير ..ووضعوا على رأسه الأسلاك و رفعوا الدرجة وعرضوه لصدمة كهربائية .
وإستمر يحيى وصحبته على ذلك الحال أيام وليال ؛الحقن بالمادة الخضراء والصدمات الكهربائية المتتالية، وكانوا يهزلون وتزداد حالتهم الصحية سوءا يوما بيوم.
* * * * * * * * * *
حاولت "حسنية العارف" مرارا إسقاط حملها المحرم ،لكن دون جدوى ..كانت جميع محاولاتها عبثا..لكنها لم تفقد الأمل،و في الشهر السابع من حملها خرجت مبتعدة كثيرا عن القرية لتحتطب،وكانت تجري في كل حين متعمدة ذلك،وتقفز من فوق الصخور..
وتحمل على رأسها رزم الحطب الكبيرة حتى جائها المخاض أخيرا ،فجلست تحت شجرة دوم وأخذت تأكل من حب الدوم المتساقط عليها وتمسح عرقها المتساقط بغزارة،أخيرا من تحتها يعلو صراخ الوليد المجهول الهوية ..والمصير .
تمسك بحجر صوان حاد كالسكين ..تقطع به الحبل السري ..تحمل الوليد ..تتجه به نحو الصخور ..تضعه فوق صخرة ومن ثم تحمل حجر آخر وتقوم بتحطيم رأسه ورميه بين الصخور وتحمل رزمة الحطب على رأسها وتشق طريقها عائدة ..هكذا وكأن شيئا لم يكن.
* * * * * * * * * *
بينما العربة كانت منطلقة في طريق عودتها إلى المدينة،كان قلب جواهر يخفق بشدة.
كانت مرتدية نظارتها السوداء الكبيرة مخفية تعابير عينيها.
وكانت تتخيل ما الشكل الذي أصبح عليه حبيبها يحيى اليوم وبعد تلك الغيبة الطويلة.
فحين كانت تتخيل أنها تحتضنه وهو مراهق صغير ..تحتضنه وتضمه إلى صدرها بقوة حتى لا يضيع منها ثانية..ثم يتحول إلى شاب قوي البنية ويحتضنها ويضمها هو إلى صدره بشوق.
أما في المصحة فعندما رأى الجميع السيارة الثمينة تدخل إلى ساحة المشفى ،وتخرج جواهر منها دب الرعب والهلع في قلوبهم جميعا وقد كانوا يعتقدون بأن ربما تكون شكوة ما مقدمة ضدهم.
مشت جواهر مسرعة كالفرس الجامحة وسألت أحدهم بغضب:
-وين الإداره..الإدارة وين ؟
أجاب وهو يرتجف:
-من هون ياستي؟
وعندما وصلت إلى الإدارة فتحت الباب بسرعة ودون أن تطرقه،وقف المدير مرتبكا،وسألته بقسوة:
-عنكم واحد اسمه يحيى مو هيك ؟
-أ..أيوه..أيوه ياستي موجود .
-طيب أنا بورجيكم ياكلاب ..وبتحكيها هيك..أنا رح أحولكم كلكم للتحقيق..يله روح جيبه وبسرعه ؟
يستمر الجري والجلبة في كامل المصحة وترداد اسم الست في كل حين.
يذهب ثلاث رجال إلى غرفة يحيى المعزولة ويكون في حالة إعياء شديد..فيشعر الجميع بالقلق من ألا يفيق ،يقول كبيرهم برجاء:
-حاولو ياجماعه إنكو تخلوه يصحصح بلاش تخربو بيتنا؟
-مابنعرف شو ماله ..مش قادر يقف .
يدخل المدير ويقول :
- وقفوه ومشوه على الإدارة بأي طريقه ..يله بسرعه ؟
قاموا برفع يحيى وإسناده والمشي به ،وعندما دخلوا به إلى الإدارة ورأته جواهر خفق قلبها بشدة وخشيت أن تهتز هيبتها وتبكي على حبيبها وهو في تلك الحالة ،فقالت آمرة :
-ولكم شو إلي عاملينه فيه ياكلاب إتركوه وإطلعو برى ..يله؟
وقف يحيى مترنحا ..إقتربت منه جواهر وأدمعت عيناها ..وقال يحيى بصوت ضعيف :
-ج..جواهر؟
فتح ذراعيه بأعياء شديد في الوقت الذي فتحت به هي ذراعيها واحتضنا بعضهما بشوق وقالت جواهر بلهفة:
-حبيبي يحيى..إيش مالك حبيبي .
فيسقط على ركبتيه فتجثو جواهر على ركبتيها معه.
* * * * * * * * *
ما أن يخيم الظلام على القرية حتى يدخل الجميع إلى بيوتهم فيغلق الميسورين الحال أبوابهم عليهم، ويلزم الفقراء عرائشهم وخيامهم ،ويكون الحال أشبه بحضر التجوال ،حيث تعلو أصوات الذئاب والضباع والكلاب المفترسة وهي تجوب الأزقة والشوارع الترابية باسطة سطوتها ونفوذها باحثة عن الدجاج والماعز فتجذبها روائح الشواء والطعام المسائي لدا الذين يستغلون تلك الفترة ليطهون ويشوون ويأكلون براحة ويطعمون أولادهم بعيدا عن مضايقات الأقارب المتطفلين الذين يشتمون روائح الطعام ويبحثون عن مصدرها ومن ثم يدخلون دون إستئذان كالقطط الجائعة تماما.
قطيع آخر يحوم حول عريشة"نواف" جندي الدرك الذي يكون على موعد مع زوجته المتعطشة في لقاء الخميس الحميمي بعد غياب أيام.
يقترب القطيع من العريشة التي بالكاد تستر ما يحدث بداخلها..حتى تلك العلاقات.
لم يزعج الضباع إنتشار رائحة النتانة و رائحة العرق النفاثة والتي كانت محفزة بالنسبة لمن إعتادوا عليها،إلا أن الضباع كانت تجذبها رائحة أخرى هي أقرب إلى رائحة الدقيق المعجون والمخمر .
أنها طفلتهم الوحيدة ذات الثلاث سنوات المستغرقة في النوم في زاوية العريشة ،يدخل زعيم القطيع رأسه ..فيطبق بفكيه على رقبتها ويكتم أنفاسها حتى الموت ،ومن ثم يقوم بجرها وراء العريشة فيلتهمها مع صحبته.
حتى ينقشع الظلام ويظهر نور الشمس ويتنبهون إلى عدم وجودها ومن ثم
يعثرون على ماتبقى منها..رأسها فقط.
* * * * * * * * * *
بينما كان يحيى يغتسل في حمام لم يره حتى في أحلامه،بقصر جواهر الخاص والبعيد عن عملها ومسؤولياتها ،مستمتعا في خيوط المياه الدافئة والبخار المنبعث والمنشق عن خيوط المياه بأشكال تسر الناظر.
إضاءة الحمام الصفراء الكلاسيكية الخافتة..والموسيقى الرومنسية المنبعثة ،وبينما كان يتنقل بنظراته متأملا جمال السيراميك ورسومات فانتازيا العري على الجدران بعد الكابوس المزعج الذي مر به ،أنه بالفعل تناقض عجيب في شخصية تلك المرأة.
في تلك اللحظة وبينما كان يحيى متنقلا بنظراته متأملا فتنة الجمال ومظاهر الثراء الفاحش ،شعر بشعور غريب..تجاه جواهر..وتداخلت أفكاره ببعضها وتناقضت عواطفه..هل يحبها..أم أنها فقط تعتبر الملاذ الآمن له ..وهل تستحق الحب ..وإن لم يكن يحبها ..فلماذا لايحاول أن يحبها.
وإن فكر حقا بأن يحبها ..هل مستوياتهما تسمح لهما بعلاقة شرعية أمام المجتمع.
و..هي هل حقا تحبه..أم أنها تعوض فقط حاجة ملحة.
فليكن مايكن ولندع الأقدار تقرر مصائرنا ولو لوقت قصير.
في الحقيقة أن يحيى بدأ يفكر بتعقل أكثر من السابق ،وبعد تجربته المؤلمة في المصحة شعر بأنه بحاجة إلى قوة تدعمه..بحاجة إلى سند قوي يستند إليه ..إنسان قوي يدعمه ؛وبلا شك أن كل تلك المواصفات موجودة في جواهر ..فجواهر هي الأقوى من أي رجل.
قطعت جواهر عليه حبل أفكاره عندما دخلت إليه وبيدها روب الحمام فاردته أمامه كي يرتده ،يدخل يحيى ذراعيه في أكمام الروب الأبيض ..الناصح البياض والذي تفوح منه رائحة العطور والبخور والنظافة.
وعندما أرتداه احتضنته و برقة كما وأنها ليست هي جواهر المرأة الجبارة،وقالت:
-نعيما حبيبي..قبلة الحمام ؟
أما في الصالة وعلى نسمات المكيف وإنبعاث صوت الموسيقى الرومنسية المحفزة كانت تنتظرهما مائدة كبيرة تحتوي على أشهى أنواع الفاكهة والحلوى والعصائر وكل مالذ وطاب.
* * * * * * * * *
في القرية يتم الأعداد لحفل الدخول في فرح من أفراح الصيف الشديد الحرارة .
ينصبون بيت الشعر المزين بقطع القماش الملونة..وتستعد الفتيات للظهور في أجمل صورة أمام الشباب فيرقصن ويغنن محاولات نيل إعجابهم.
وأما قريبات العروس والعريس فيصعدن العربات ..كذلك من يملكن النقود وتتوفر لهن عربات لنقلهن إلى المحافظة المرتفعة حيث الهواء النقي والطقس المعتدل ،حيث توجد صالونات تجميل العرائس،والمرافقات.
وهناك وبسبب إختلاف لون البشرة والوجوه.. تصبح الفتيات محط سخرية من قبل أهل المحافظة وعنصريتهم،فيوصفون الفتيات "بالأغنام الفالته".
بل إنتقلت العدوى إلى أبناء القرى ليوصفون بناتهم بنفس الوصف ..وهكذا إعتادوا أن ينقصون من قدر أنفسهم..وأن يبخسون من قيمتهم أمام شعوب المدينة بأكملها.
بعد تجهيز العروس ووضع الماكياج يصعدون من جديد في العربات ،وما أن يصلن ومع إشتداد الحرارة في القرية المنخفضة جدا حتى يسيح الماكياج وتبدو وجوههن أشبه بوجوه المهرجات في السيرك.
* * * * * * * * *
كانت جواهر تزداد حبا وشغفا بيحيى ولم تعد تستطيع الاستغناء عنه أبدا ،بل هو الرجل الوحيد الذي يجعلها أنثى رقيقة ..وهو الذي يحررها من داخل قلعة المرأة الجبارة ذات النفوذ والقوة التي تجعلها تهز رجولة أقوى وأعتى الرجال الجبابرة وأشدهم نفوذا وقسوة في البلد .
فتجعلهم يخشونها..ويتجنبون إنفعالها وثورتها عند الغضب.
وكانت مطالبها تنفذ وبسرعة وبلا تأخير.فقد فعلت الكثير الكثير من أجل بناء البلد وتطوره ليعلو ويعلو على عهدها مخرجته من أزماته الكثيرة في الأوقات الحرجة التي يمر به العالم العربي بأسره.
وبالتالي كانت هي أيضا تعلو وتعلو معه وبه.
لكن...
وبالرغم من ذلك فهي كانت تخشى شيئا واحدا ؛هو أن تخسر يحيى أو أن تفقده ثانية ..أو أن تخسر قلبه الذي بات يستجيب لها وهو في كامل نضوجه.
وأنها حتما ستلبي مطالبه وستحرص عل رضاه..بل وستسمح له بالعودة إلى قريته إن هو أصر على ذلك.. على أن تراه متى أرادت..فيجب وبأي شكل من الأشكال أن تبقى تلك العلاقة قائمة، وذلك ماكان.
فهمس يحيى أخيرا إليها مستعملا ذكائه :
-سيدتي الجميلة..العظيمة...؟
لكنها قالت له مقاطعة:
-حبيبي يحيى أرجوك .. بلاش كلمة سيدتي يايحيى..إنتي حبيبي..حبيبي وأنا حبيبتك وبس ؟
-عفوا حبيبتي..أنا بمزح معكي ..إنتي أعظم إنسانه شفتها بحياتي؟
-ياحياتي ..وإنتي أحلى حبيب في حياتي إلي ماحبيت قبلك ولا رايحه أحب بعدك.
وقال وهو لايزال يستعمل ذكائه دون أن يخدعها أو أن يكذب عليها:
-بس أنا بحب كمان فيكي قوتكي لإنكي مثل البحر في هدوءه ومثله كمان في هيجانه ياحياتي..وأنا بحب البحر؟
عندها وهي المرأة التي تحدثت إلى أعظم الرجال في العالم ضحكت ضحكة دبلوماسية عالية و ذلك ليس بغريبا عن المرأة السياسية المحنكة والتي كما يقال "بتفهما ع الطاير ":
-يحيى..إيش بدك حبيبي؟
-لا بس يعني ...
وقالت مقاطعه:
- حبيبي يحيى..احكيلي شو بدك أنا عيوني إلك؟
-بقدر حبيتي إني أشفع عندكي لأثنين بعزو علي كثير؟
-مين هدول لتنين ووين همه بالسجن؟
-لا همو مش بالسجن حبيبتي بس موجودين في المصحة ..كنا مع بعض.. صديق اسمه مأمون وصديقه اسمها غادة .
-بس هيك حبيبي ..من عيوني .
(يتبع...)
تيسيرالمغاصبه
٩-٦-٢٠٢٤
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق