أسير الذكريات
ذات يوم كنت متوجها إلى العمل كعادتي ، و كانت السماء ملبّدة بغيوم داكنة تشعرني بالحزن و الألم على من فقدتهم من أحبتي سواء الذين توفّاهم الأجل أو الذين هم ما زالوا في سجن الحياة على قيد الحياة و كنت أسرح دائما بلقائهم ثم طرأت ببالي فكرة جميلة و كنت أحدث نفسي بما خطر ببالي " فقالت إذا أردت أن تعيش حدثا فاصنعْه " كان ذلك في ثنايا رحلتي من جيجل إلى بوطالب منحرفا إلى اليمين شاقا قلب بازول الذي ما زال يختزن أجمل و أعذب ذكرياتي .. كانت رحلتي و كنت أستمتع بما تستوقفني فيه ذاكرتي .. و لحظات الاستمتاع تغرقني في حنيني إلى الماضي و و لم أدر و أنا أترنم بتسابيح ذكرياتي فإذا ببوطالب تطل علي شاحبة الوجه مقطبة الجبين دامعة العينين تكاد تحرقني زفراتها من لوعة الشوق و الحنين ، حاولت الفرار منها فأسرت ، استقرأت في عينيها العتاب و أنا أومن بأن اللوم و العتاب للأحبة ما عساني أقول لها و قد طال الغياب و تفرق عنها الخلان و الأحباب و الأصحاب و أنا الأميل إلى قلبها مع تزاحم العشاق و القلوب الولهى إليها تساق . استجمعت قواي و اقتربت منها خطوة لعلي أستطيع الاعتذار فسبقتني بعينيها و بدون كلام فقالت قبلت الاعتذار هكذا بوطالب و هكذا الأحبة يعذرونك قبل أن تطلب الاعتذار. أومأت لي بالدخول إلى محل الذكريات فدخلت ، فاستقبلني شاب في مقتبل العمر ببشاشة عرفت بعد ذلك أن اسمه محمد ثم بادرته بالحديث قائلا لم أرتد هذا المقهى منذ ثمانية و عشرين سنة طلبت فنجان قهوة ثم أردفت قائلا : تغيّر كثيرا فقال أصبح جميلا . أليس كذلك ؟ فقلت و ما قيمة الجمال بدون أحبة المكان . كنت أمني النفس بلقاء صديق كان من أعز الأصدقاء كان اسمه محمد و كان مخزون ذكرياتي معه وافر . سألت محمد هل يمكن أن ألتقي محمد فقال كان هنا هذا الصباح ثم رحل فتأسفت ثانية لأنني لم أستطع أن أصنع الحدث لأعيشه و قبل أن أغادر المقهى أسرعت يدي إلى قلمي و كتبت على جذاذة ورق : " أخي محمد ارتشفت قهوة عند محمد ، كنت أمني النفس بلقائك و لكن لم يكن ذلك تحياتي العطرة : أخوك عبد الحكيم فارح " سلمت الورقة إلى الشاب محمد ليسلمها حين يلتقي محمد فأمسك بها بين أصابعه و رغم خفتها شعر أنه سُلّم أمانة بثقل جبل أحد أو ثهلان ثم قبض عليها بقوة كفه حتى لا تضيع منه : هذه الأخلاق لا نجدها إلا في بوطالب . وقف محمد على عتبة باب المقهى و الورقة ما زالت في قبضة يده و فجأة صُنع الحدث و يا للمفاجأة دخل محمد فرأيته محتفظا بابتسامته منذ عشرات السنين ، فلما رأيته اختبأت وراء عمود من أعمدة المقهى و أنا أشعر بسعادة اللقاء . الشاب محمد سلمه الورقة و قال : هذه الورقة لك من صديق كان هنا و رحل . ابتسم محمد و قلبه دليله رغم أنه لم يكتشف وجودي في المقهى و لكنه شعر بي : قال محمد لا أظنه إلا عبد الحكيم رفيق الدرب و طير من طيور السرب ، فشعرت بأني طائر القطا الذي يلف حول العالم ثم يكون وفيا فيعود به وفاؤه الى العش الذي فقس فيه و ها أنا عدت إلى أيك ذكرياتي أطللت على محمد من خلف العمود و كان اللقاء حضنته بقوة و قلت : محمد إذا أردت أن تعيش حدثا فاصنعه و سيوفقك الله ... و كان اللقاء جلسنا و عاودنا الحنين فعدنا
إلى ذكريات الأيام الخوالي.
الجزائر
2016
بقلمي
الأستاذ عبد الحكيم فارح
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق