(رواية قصيره)
* "رمثاية" ووطن...!!!
في صائفة أثنين وتسعين من من القرن الماضي، وابان اقامتي في بلاد الرافدين للدراسة هناك ،
انتقلت من بغداد التي كنت مقيما بها وازاول دراسه هناك الى صديق وقريب كان مقيما ويشتغل سائق شاحنه في مدينة سامراء، وهي مدينة من أعجب مدن الدنيا وأجملها في ذلك الزمن. فسامراء هي عاصمة من أغرب عواصم العالم اجمع ساعتها... هيخ مدينة بناها الخليفة المعتصم في أرض كانت قفرا موحشة واتخذها عاصمة لبني العباس . ما كان يُرى قبل تأسيسها و في أنهار تلك الارض اليباب سوى قوافل السراب وهي تتعانق على مد الأفق والبصر ...! وما كان يسمع في لياليها الموحشة غير نباح الكلاب ونعيق البوم والغراب و صباح الثعالب و عواء الذئاب ...!ولم يكن هناك سوى أديرة للنصارى تقبع بين آكامها وفجاجها و متناثرة في خلائها وقفارها هنا وهناك ...
وفجأة تتحول تلك البيداء الخلاء الى مدينة من أجمل مدن الدنيا وعاصمة من أوسع العواصم التي نشأت
في تلك الحقبة...مدينة تعانق الماء والخضار، وجنة تجري من تحتها الأنهار... حيث تتدفق المياه من نهر دجلة فتكثر الجنان والبساتين والحدائق الغناء فيطيب فيها العيش الهواء... .
وتعانق فيها البهجة أرضها والسماء.
كان صديقي مقيما و يشتغل فيها سائقا شاحنة لشركة هناك. إستقبلني وأكرم وفادتي وتجولت معه في معالم تارخية لمدينة الجند التي أسسها الخليفة العباسي المعتصم وسماها باسمه "المتوكّلية' أو "مدينة الجند". ولوقوعها على ضفاف نهر دجلة كانت تتميز بوفرة مياها وكثرة الخضار الشارح للصدر فيها. و كانت فيها صومعة مميزة حلازونية التصاعدو الشكل، تسمى بالملويّة تستطيع الخيول كما البشر صعودها...!وتوجد فيها معالم وشواخص معمارية "كقصر العاشق" وهي قلعة أثرية عظيمة...
وعموما فمدينة سامراء قال فيهاالخليفة المعتصم :
بأنها مدينة تسر الناظرين وٱسمها القديم كان :"سرّ من رأى" لتصبح بعد ذلك اختزالا : "سامراء"
وقد سماها الخليفة المعتصم نفسه باسمها المعروفة به الآن "سامراء" .
فكانت مدينة هادئة مترامية الأطراف، تزينها كثبان الرمل وآكام البردي المنغمسة في مساحات مائية شاسعة كالأهوار تماما.
ذات رحلة مع صديقي في شاحنته في صحاري سامرّاء ،كنت وفي لحظة صمت توقّف الكلام فيها بيني وبين رفيقي، كنت ساعتها شارد الذهن، أمتّع النظر برحابة الصحراء مسافرا في غيمها الموحش وسرابها المثير المستفزّ لكوامن الأشواق والحنين للوطن النّائي القصيّ البعيد ...!
حتى رأيت على ناصية الطريق نبتتة وحيدة الطّلع...!
شككت بأمرها...!!!؟
وسرعان ما أمرت صديقي بالتوقف على الفور...!تفاجئ الرجل من طلبي المفاجئ والطارئ والملح ...!وتوقّف على الفور مذعنا للهفتي الشديدة والحاحي ... ! كان ظنّه أني أرغب قضاء حاجتي البشرية التي انهالت عليّا فجأة دون سابق انذار...!!!
نزلت على الفور وتوجهت هرولة ورجعت للنّبته التي لمحت ومضا ورأيت عرضا...!! وكانت المفجأة عظيمة جدا وصاعقة حين وصلت اليها...!!!
إنها "رمثاية" ...!!!؟؟
لامستها وشممتها ...!جمّعتها...!وفرقتها...! وحرّكتها لمزيد التّأّكد ...!
أهو وهم أو خداع بصريّ...!؟ أو أنه تشابه في الإنبات والطّلع ...!!!؟؟
كيف "للرمث" الذي ينبت في السباسب وفي المناطق الشبه صحراويه والجبال ببلاد المغرب العربي.. كيف له أن ينبت في هذه الأرض الصحراويه التي لا تشبه تربه أرضنا...!!؟
نزلت على ركبتايا، وٱحتضنتها بحب وشوق ولهفة "الغابّ" على النّفة منذ أربعة أعوام ...!!!
نعم لم تطأ "النّفّة" "جدڨي" منذ أربعة أعوام...! أربعة أعوام تزيد منذ هاجرت من الوطن العزيز ...! وأنا مشتاق النفة وغاب محاولة تعويضها بالسجائر....!
"النّفة" التي سماها من يعرفها مسحوق السعادة...!!!!وأنيسة الدّهر...!!!!
والرمث الذي بين يدياّ من مكوناتها الأساسية...!
لكم حاولت تعويض "غبّها" وإدمانها بالسجائر وبما يشبهها من نفّة السودانيين والباكستانيين لكن دون جدوى ...
هي الوحيدة التي تطفأ ضمأ كل التّبوغ ...!
ولا يطفأ ضمأها وغبّها وإدمانهاغيرها في الدّنيا ...!!!
رغم توفّر ورق التّبغ هنا الاّ أنّ الرمث هو المعضلة لعدم وجوده وهاأنّي وجدته أخيرا ...! "رمثاية' خضراء يافعة غزيرة الطّلع لا زهر فيها ولا عودا يابس....!
تفرّستها...! وشممتها فشممت فيها رائحة الوطن ....!
رائحة الطفولة ومسقط الرأس ودروب القرى ....!!!
رائحة الوكر، والحضن والأهل والبلد...!
فيها ريح من بدايتي ونهايتي من ريح "العاتڨ"....وريح "هود الشيح" ،و"جبل الساهلة" ، و"طبّة الحاج محمد الصالح" ،و"كواتير خالي زرّو ڨ"، حتى ريح عاتڨ الرمث أين منابته الرسميّة والمدفن والمستقر والمآل ...!!!
كانت رمثاية عظيمة ويتيمة لاتجاورها أخرى على مد البصر...! كأنها طلعت هديّة ومنّة من الله عزّ وجلّ لي...!
أو جاء ريح الغرب الطّيّب من ناحية الوطن القصيّ ...!
كلّمتها وتكلّمت عنها فقلت :
غريبة الطّلع أيتها النّائية
رمثاية يا بنت وطنِي...
أكرمتني بالتلاقي...
أجابتني مهفهفة لريح الصبا بالوصل قائلةً :
أيّها الغريب الغابّ عن النّفة
مذْ زمنِ...
ها أنا بين يديك
فاطفأْ بي نار الفراقِ ..
اقتلعتها بلطف من جذوعها ،واحتضنتها بحب ورجعت للشاحنة والفرح بالغنيمة لايوصف وأناأصيح لصديقي:
رمث والله رمث ...!!!
أجابني الرجل :
عن اي رمث تحكي في بلاد العراق ..؟؟لكنه تناولها من عندي والحيرة غالبت فرحه لما تاكّد منها قائلا:
يا والله رمث في صحراء العراق ...!!؟أخذتها وعند رجوعنا اقتنيت ورق التّبغ وجفّفته في شمس العراق الحارقة وسرعان ماجفّ وطحنته وحرقت الرمثاية بجرفيّة وبرمادها الطيّب الثمين قمت بالخلطة السحريّة بين مصحون التبغ والرماد بالمقادير الصّحيحة وبالغت في الدقّ والسقي بين كحّ وعطيس ...!!!
حتى كانت ولادة نفّة عذراء لا يعبر أجواءها لا ذباب ولاباعوض...!!
ذلك من فرط حرفية صنعتها...
ولمّا انهيت تناولت بالسبابة والابهام مباشرة من "العرمة" والمحصول أكبر قدر يحمله الإصبعان و"جدّ ڨتها" مرتعد الفرائس بلهفة ونهم من فرط شوق الفراق وغبّ السنين الطوال ...!!!وضعتها وسكنت فتكلّمت النّفة من موضعها الى كل الجسم الضمآن العاطش الذي تداعى لها "بتوزيز" وتنميل جميل...!
أماّ موضعها فقد أصبح ينبض بألم حلو شديد لذيذ ....!!!
كأنما ضربني أحد بفأس في ذات الموضع...!!! أو بإبرة بنج فسكرت وسافرت في ثمالة عظيمة جعلتني أرى أفلاما من كل الوان الطّيف...! ولم أعد أرى من حولي شيئا الا ظلمة جميلة ساحرة في أعيني وأنجما و"رواميس" ...!!!
وتداخلت الأمكنة والازمنة في ذهني ولم يعد يربطني بالمكان غير صوت صديقي الذي كان يصلني خافتا كانما من قاع بئر...!!! حين كان يشكوا ما فعلت به النفّة أيضا ولم أكن أفهم منه شيئا ساعتها غير همهمة وغمغة وأنين ولهاث ....!!!
-سميربن التبريزي الحفصاوي-تونس
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق