الأحد، 10 أغسطس 2025

مقال تحت عنوان{{بين البحر والقلب}} بقلم الكاتب العراقي القدير الأستاذ{{أحمد الموسوي}}


 "بين البحر والقلب: حين يسبق الشكل المضمون في تلقي الشعر"


أنشر قصيدتي فلا أطلب إلا أن تُقرأ، أن تدخل كلماتي إلى صدرٍ يملك وقتًا للوقوف عندها. أريد صدىً يردّ إليّ شيئًا من روحي لا مجرد ملاحظة تقنية ترفع القبعة أو تلوح بآلة القياس: “في أي بحر بنيتها؟” سؤالٌ يخرج بلا مقدمات، كمن يوقفك في الشارع ليعرف مواصفات قميصك بينما قلبك لا يزال يلهج باسمٍ أحببته قبل لحظات.
ليس العتب على من يسأل عن البحر بحد ذاته. البحرُ لغةٌ من لغات الشعر، وأدواتُ الإيقاع ترعى النص وتمنحه إيقاع القلب. لكن ما يؤلمُ أن يتحوّل السؤال إلى نهايةٍ قبل أن يبدأ اللقاء. أن يصير الحكم على قصيدةٍ لم تفرغ بعد من صدر الشاعر كحكمٍ قضى بسذاجةٍ على رحلةٍ لم تُكمَل بعد. في هذا الفعلِ، شيءٌ من عجلةٍ العصر: عالمٌ يلهث وراء السرعة، يملك خياراتٍ لانهائية، فلا يقطف إلا سطح الوِرد.
السر في ذلك أعمق من أن يُختزل في نقدٍ تقني. إنما في مجتمعٍ اختزل المعرفةَ في إجاباتٍ سريعة، صار الشعر ضحية ثقافةٍ تُحبّ الحساباتَ الواضحة على حساب الأحاسيس المضطربة. نعيش عصر الصور المختصرة واللايكات العابرة، فاختصارنا للنص يشبه اختصارنا للحياة: نجمع الدقائق ولا نعيش الساعات. أما من يسهلون سؤالهم عن البحر فليسوا بالضرورة أعداءً للشعر؛ قد يكونون بشرًا فقدوا الهدوء، أو طلابًا للمقاييس قبل أن يصبحوا تلاميذ للقلوب.
وإذا كان في هذا الاندفاع ما يحرج الشاعر، ففيه أيضًا دعوة. دعوة لأن نعيد قراءة فعل النشر كعبادةٍ صغيرة: نصٌّ نعرضه على الآخرين كي يتبركوا منه، لا كي يُشخّصوه ويُعاد بناؤه أمامنا. الشاعر حين يكتب لا يضع قواعد فقط، بل يزرع نورًا أو يرفع صوتًا أو يهمس بحسرة. إنما يلتقي الإنسان بالإنسان أولًا قبل أن يلتقي الشكل. فإذا أردنا أن نحفظ للشعر قدره، فعلينا أن نردّ على السؤال بمزيد من إنسانية: “اقرأ البيت الأخير ببطء، هل أضاء قلبك؟” أو “لماذا لفتك هذا السطر؟” هكذا نعيد للحوار طعم اللقاء.
ثم هناك بعدٌ آخر: البُعد الفلسفي والديني في أمرنا هذا. في تقصيرنا عن الإنصات، نكرر خطأً أعمق في علاقتنا بالعالم: أن نأخذ من الأشياء صورها فقط، من دون أن نحاول الاستماع إلى أصواتها. وكمثلٍ جميل: إن لم نستمع لنبض الشاعر، سنفشل في سماع نبض الخلق. في الكتب السماوية دعوات للسكينة والتأمل، لمَ يظل الصوت الإلهي يطلب منا الوقوف عند الآيات والتفكّر؟ لأن في الوقوف حكمة، وفي التفكر تربية للنفس على صبرٍ يعانق الفهم. الشعرُ، في جوهره، هو نوعٌ من العبادة الهادئة؛ قراءةٌ تتطلب وقفةً، وتأملاً، واستجابةً قلبية.
ولنُذكر هنا مبدأً أخلاقيًا رفيعًا: لا تنتقد نصًا إن لم تكن ملمًا أدبيًا، ولغويًا، وأخلاقيًا بموضوعه—فالنقد إن لم يقترن بالعلم والرحمة يتحوّل إلى أداة إهانة تجرح الكاتب وتُحرم الحوار من قيمته.
ليس مطلوبًا من كل قارئٍ أن يكون ناقدًا مُرصّعًا بالمصطلحات، لكن مطلوبٌ منه أن يكون إنسانًا حاضرًا. أن يمنح القصيدة ضوءًا صغيرًا من وقته قبل أن يصدر حكمه. وللشاعر، واجبٌ رقيق: أن يعلّم القراءة بلطف، أن يدعو القارئ إلى منتصف البيت، إلى حيث تشتعل الصورة أو تتشقّق الإيمان، وأن يجعل من النص متنفسًا للحوار، لا ساحة للاختبار.
ختامًا، لندع الشعر يظل جسراً بين أرواحنا. لنحترم البحر ولنُقرّ أن كل بحر يحمل أسرارًا يحتاجها من يسبح فيه. ولمن يسأل عن البحر، لنجبِ بصوتٍ يفتح الباب لا يغلقه: اقرأ، تمهّل، وأعد إليّ ما وجدت؛ فأجوبتنا عن البحر قد تكشف لنا الآن عن بصيصٍ لم نره في الأمواج.

✍️بقلم الاديب الدكتور أحمد الموسوي 
جميع الحقوق محفوظة للدكتور أحمد الموسوي 
بتأريخ 08.09.2025
Time:4pm

ليست هناك تعليقات: