(بطل من ورق )
كانا قد قطعا أكثر من ألفي متر الآن، لم يكن بأستطاعته مجاراة خاله في السير، فخطوات الأخير كانت أشبه بالهرولة! وعلى الرغم من تقاربهما بالعمر إلا إنه كان يميل للهزال فيما كان جسد خاله يضج بالحيوية!عندما ايقظه الخال الشاب، كان هو نائما ومتقرفصا مثل طفل صغير، حتى إنه لم يتركه يهنأ بفطور الصباح!
-علينا أن نسرع أكثر وإلا فأننا لن نجد سمكة واحدة!إنظر كيف يهرول الآخرين. ثم أشار بيده لجموع الناس التي أخذت بالهبوط والاختفاء خلف السدة الترابية الطويلة والملتوية مثل ثعبان رمادي. بذل جهدا للحاق بخاله فيما كانت آثار النوم ما زالت تداعب خياله!
شرع خاله يستحثه أكثر الآن، توقف لبرهة وهو يحدق إليه، حتى إذا قاربه في المسافة وضع الأخير يده في ظهره ودفعه للأمام وهو يضحك بقوة. عندما هبطا خلف السدة شلتهما المفاجأة، واتسعت عيناهما انبهارا! كل شىء أسود، وكأن القرية انتقلت للعيش هنا . كانت عشرات الجداول الصغيرة والتي امتلأت من مياه النهر الكبير أثناء الفيضان تضج بالحركة، لقد وقعت الأسماك بالفخ أخيرا!!التفت جانبا وادهشه إختفاء الخال، لكن دهشته إزدادت حينما رآه يخوض مع الآخرين وقد تجرد إلا من ثيابه الداخلية! هرول إلى حافة الجدول، أخذ يبحث عن ثياب خاله، انحنى عليها وضمها إلى صدره ثم وقف جانبا وهو يحدق ببلاهة لتلك الجموع المختلطة والتي علا الوحل أغلب أجسادهم وملامحهم، كان صراخهم يعلو ،فيما أخذت التعليقات والضحكات الساخرة تنثال من كل جانب، اذهله مارأى لكنه بقي مسمرا في مكانه لايحيد عنه جانبا وقد زاد اللمعان في عينيه. كانت أغلب الجداول ضحلة في مياهها، ولم تكن عميقة، مما جعل الخوض فيها سهلا وميسورا، أما العثور على الأسماك فلم يكن يتطلب جهدا كبيرا، إذ مدت أغلبها رؤوسها وهي تبحث بلا جدوى عن شىء من اكسير الحياة المذاب!تعالى الصراخ فجأة، أمسك أحدهم بسمكة، رفعها عاليا وأخذ يخوض في الوحل فيما مدت إحدى النسوة المتلفعات بالسواد يديها الاثنتين تمهيدا لأحتضانها بحرص!كان أغلب النساء اللاتي تواجدن في هذا الكرنفال السمكي متفرجات ومشجعات فحسب، وقد انحصر واجبهن الرئيسي في التقاط الأسماك والمحافظة على الأطفال الأشقياء من الخوض في المياه الغادرة. ألقى نظرة حوله، كانت ثيابه قد ابتلت أطرافها وتلوثت بالطين، لكنه سرعان مانسي الأمر ولم يعد يبالي، وانشغل أكثر في متابعة هذا الكرنفال البشري الباذخ، وقرر مع نفسه الاحتفاظ بكل التفاصيل في ذهنه، وسردها لرفاقه في أروقة الكلية.قطع عليه صوت خاله فجأة سلسلة أفكاره، كان يحمل بين ذراعيه سمكة كبيرة بطول طفلا رضيعا ربما، ياللهول ما اضخمها! أخذ يحدق مندهشا لأذرع الرجال التي امتدت تعين خاله في حمل غنيمته الثمينة! أصبح فخورا بخاله الآن، كان شابا ريفيا طيبا، بملامح ضاحكة دوما.
هتف به وهو يتنفس بسرعة :عليك أن تحافظ عليها جيدا، وإن تطلب الأمر فأجلس فوقها! ثم ارتد ضاحكا وهو يخوض في الوحل.تطلع حوله، ورغما عنه اصطدمت نظراته بعيني واحدة أو اثنتين من فتيات القرية لكنه سرعان ما غض بصره وقد تورد حياءا. بذلت السمكة الكبيرة جهدا مستميتا للخلاص من اسرها في الكيس الكبير ،لكنه تشبث بها، حتى أحمر وجهه وهمدت حركتها! تعالى فجأة صراخ آخر، ثمة من اصطاد سمكة، لكنها لم تكن ضخمة مثل التي اصطادها الخال! أخذت الجموع تتفرق شيئا فشيئا الآن وقد حل وقت الظهيرة،كان أغلبهم ينوء تحت حمله، فالصيد كان وفيرا والأسماك كانت كثيرة، انصرف يراقب خاله الذي كان منشغلا في غسل جسده مما علق به من اوحال. لم يتبادلا حديثا كثيرا في طريق العودة،كان يمشي كالحالم خلف خاله الذي قطع الصمت مرة ومرتان في تعليقات تخللها ضحك متقطع. في الدار تحلق إخوته الصغار حولهم، وحملقت أمه وكذلك شقيقاته البنات بسعادة، كان الخال يفرغ الكيس من محتوياته الآن، سرعان ما تعالت الآهات والضحكات، كان الجميع صغيرهم وكبيرهم يحدق مذهولا بالسمكة الكبيرة!إبتسم خالي بوجه أمي، أشار للسمكة ثم لي وقال بصوت جاد :
-هذه السمكة الكبيرة، اصطادها ابنك البطل! لم انبس بأي حرف، فالدهشة عقدت لساني، أما وجهي فأضحى احمرا بلون الدم! ازاحت أمي شقيقاتي جانبا، دنت مني،لمعت عيناها، ربتت على كتفي وهي تهمس :سبع أخو البنات! اشعرني قولها بالخجل، هربت بنظراتي بعيدا عن عيون الجميع، إلى حيث تمددت السمكة الكبيرة بطولها الفخم! أخذ خالي يتحدث همسا إلى شقيقاتي اللاتي تحلقن كالفراشات حوله، كان يعيد عليهن حكايتي مع السمكة وكيف اصطدتها بذراعي العاريتين،أما امي فقد دارت حول السمكة قليلا ثم سمعتها قبل أن تخرج وهي تطلب من خالي ،بضرورة إحضار زوجته مع الأطفال ليتناولو من شواء السمكة التي اصطادها ابنها الكبير، قالت هذا بكبريائها الريفي ثم استدارت خارجة. كان خالي مازال في وقفته المعهودة وهو يعيد تمثيل قصة صيد السمكة بلسانه وحركات يديه وسط ضحكات اخوتي، أما أنا فكنت ابحث حائرا عن فرصة لأصطياد نظرة من عينيه، لكن دون جدوى!!!!(ملاحظة :هي قصة حقيقية، عني وعن آخرين )
بقلم /رعد الإمارة /العراق
في 19/8/2019 الاثنين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق