الجمعة، 18 أكتوبر 2019

ج1 من قصة قصيرة بعنوان{{متاهة }} بقلم الاديب العراقي القدير الاستاذ {{رعد الإمارة}}

(متاهة )

مضت بضع دقائق لعينة منذ أن استيقظت من نومي، وعندما فكرت بأن يومي هذا سيكون مملا وعاديا كسابقه،سحبت الغطاء على رأسي وقررت البقاء في الفراش، كان ثمة سكون عجيب يخيم على الدار، لاصوت مكنسة كهربائية، لا صنابير مياه تفتح وتغلق، ولا حتى صوت خفي امي ،وهي تسحبهما خلفها في رواحها ومجيئها المعتاد مابين المطبخ والغرف والحمام!عجيب !هذا الأمر لم يحدث منذ سنين، هي تعودت حركة أمها الصباحية الدائبة. نضت عنها الغطاء، لكن عينيها ظلتا رغم ذلك تحدقان في السقف وهما ترمشان بلا هدف. قررت النهوض، لكنها تركت الأمر لقدميها، أنزلت الأولى، بقيت تلوح بها من طرف السرير، لحظات ثم دفعت بالأخرى، وقفت ببيجامة النوم وقد أصبحت خارج السرير، لم تكن تشعر بالجوع، بقدر ماكانت تشعر بخواء عجيب، وفكرت بأن حماما باردا سيقضي حتما على خمولها هذا. ملأ جسدها فراغ باب المطبخ، أدارت عينيها متفحصة، كل شىء مرتب ونظيف، أدوات الطبخ في مكانها،واضح إنها لم تستعمل، وبراد الشاي في مكانه المعهود أيضا، قد تكون ما زالت نائمة، لكن هذا لم يحدث سابقا، ليس أمها بأي حال من الأحوال! هزت كتفيها واستدارت،مشت خطوتين نحو غرفة نوم أمها ثم توقفت كأنما سمرت قدميها في الممشى، همست  مع نفسها :
-هل اتركها نائمة! لست جائعة ،ثم إني لا استسيغ الشاي كثيرا، سأتركها ترتاح قليلا ريثما استحم.همت بالالتفاف لكنها توقفت، ما هذه السخافة يابنت، قد تكون مريضة، هكذا فكرت مع نفسها! ثم دفعت باب غرفة النوم ودخلت. كان مصباح النور الأزرق يرسم اشباحا للأشياء على الجدران الملساء، وهناك غير بعيد عنها حينما حدقت، كان شعر أمها الأشقر الشائب منسدلا على الوسادة،فيما كانت عينيها الجاحظتين تحدقان في سقف الغرفة بدهشة، لقد كانت ميتة تماما. جلست عند طرف السرير، وقد تجمدت عينيها في الشعر المنسدل، مازالت ساقها دافئة، دنت قليلا، مست أصابع أمها المتشابكة، ما عدا ذلك لم تفعل شىء، كانت مندهشة ومنذهلة مما ترى، لم تبك أو تند عنها أي صرخة!أحقا لن تستيقظ أمها بعد الآن!؟أحقا هي ميتة فعلا، قد تكون مريضة جدا!؟وضعت يدها المرتعشة قريبا من قلبها، لكنها سرعان ما سحبتها وقد زاغت عينيها، بدا لها الهدوء والسكون المطبق مرعبا هذه المرة! تمنت لو حصلت على بعض الضجيج، هذا الهدوء بدأ يخيفها، لكن ماذا عساها أن تفعل! هل تصرخ مثلا، ومن سيسمعها!؟الجيران! إنها لاتعرف إن كان ثمة جيران بالقرب حتى! أخيرا أضحت يتيمة، وحيدة، تبا للدموع المتحجرة مابالها تلاشت! بمن تتصل!؟إن رأسها بات يؤلمها، ثمة صداع مخيف أخذ يضرب صدغها بمطارقه، ليس من أحد تعرفه، إلا بعض الصديقات والأصدقاء، إنهم كل مالديها، رفاق الليل ،والدراسة! تذكرت إن لديها عم وعمة، لكنهما يقطنان في كندا منذ سنوات عدة، ماذا أفعل ياربي! راحت تذرع الغرفة جيئة وذهابا، الصداع لايحتمل، لا أعرف حتى كيف أعد القهوة، لطالما اعتمدت عليك يا ماما! هكذا همست لنفسها ثم جثت على ركبتيها ،وراحت تحدق في العيون المفتوحة الجاحظة ،وبدأت تبكي. كانت تجلس في غرفتها،لقد مضت شهور عديدة مذ رحلت والدتها، راحت تطلي شفتيها بأحمر الشفاه، المرآة لاتكذب، ثمة هالات سود قد أحاطت بعينيها، إنها تعرف، السهر لوقت متأخر، التدخين، ثم كؤوس الخمر المترعة باللذة، لقد رحل صمام الأمان!لم يعد ثمة قيد، وإن وجد فهو نظرات الجيران الفضولية التي بدأت تصطادها أثناء خروجها وحين عودتها وهي مخمورة تماما، الاوغاد ماذا يريدون منها، أما يكفيهم إنها أصبحت يتيمة! على الأقل هي لا تصطحب الرجال كما تفعل بعض النساء، ثم إنها مازالت عذراء،فقط قبلات يتيمة من بعضهم واحضان بائسة، ماعدا ذلك هي ظلت تلك البنت ذات الملامح الميتة، والتي لم تغادر الصدمة ملامح وجهها بعد.انتهت من طلاء شفتيها، تأملت نفسها، غامت عينيها وهي تحدق في نقطة وهمية، رسمها خيالها المتعب في منتصف المرآة، أخذت تطرق بأصابعها حافة طاولة الزينة، كانت تفعل ذلك بتوتر واضح، وهي تهمس لنفسها :
-وماذا بعد،هل هذه هي الحياة التي أريدها!؟نوم في النهار، سهر في الليل. وقع بصرها على بعض الكتب، والمحاضرات الدراسية المركونة في إحدى زوايا الغرفة، والتي علاها الغبار ،قطبت جبينها :
-لا، لقد فات الأوان، لم يعد ثمة مايجذبني للدراسة، السفر قد يكون أفضل،تبا، لو كان لي جذور طيبة هنا، لتشبثت بها! لكن آه، انا مفعمة بالوحدة. كان المطار يعج بشتى أنواع البشر،ينتابها شعور بأن  بعضهم سيعود، أما الآخرون فقد تكون هذه رحلتهم الأخيرة، مثلها ربما، وضعت يدها على خدها، الأنتظار ممل، ككل شىء، لكن قد تتغير حياتها هناك في كندا، من يدري. (انتهى الجزء الأول /يتبع )

بقلم /رعد الإمارة /العراق 
18/10/2019 الخميس

ليست هناك تعليقات: