بَوحُ الياسمين ....
وعلى غيرِ عادتِها كان وجهها شاحبًا يغفوا الألمُ على مُحياها ، و طيفًا من ضَحكتها الجميلةِ قد تلاشى ، وكأنها هَرِمت فوق السنينِ سنينًا أُخر ، شعرتُ وكأن ممراتُ الحياةِ أمامَ طُموحي مُكبلةً بسلاسلِ المرض الذي ينهشُ جسدَ محبوبتي ، أردتُ أن أجمعَ أوجاعها بقبضةٍ من يدي ، وأُعيدَ لأيامي زهرةً كانت لحياتي التي عليها أُراهنُ ولم أزل .
وفي زِحامِ الذكرياتِ أخذتْ عيناها تنسدلانِ أمامي تحت تأثيرِ جُرعةٍ من العقاقيرِ ، أمسكتُ بيدها أَتحسسها ، شعرتُ بشرايينها التي كانت تضخُ نبضًا من الحنينِ إليَّ دومًا ، تحسستُ رأسها وأخذتْ يدي تُلامسُ شعرها الذي كان ربيعًا يُأَججُ بُركانَ الحبَّ بداخلي لها ، لم أستطع أن أحبسَ دمعتي رهنَ مُقلتي عندما أَخَذتْ خصلاتٌ من شعرها تتساقطُ بين أناملي ، شعرتُ بألمٍ ينخزُ صَميمَ قلبي وسكاكينَ الفُراق تَنغرسُ في سجلات حياتي .
وعلى غَفلةٍ مني سمعتُ خطواتٍ ثابتةٍ تتقدمُ خلفَ بابِ الغُرفةِ نظرتُ نحو البابِ و إذ بهِ الطبيبُ الذي يُشرفُ على حالةِ ( مي ) ، يحملُ في يدهِ سِجلًا يُقلبُ أوراقهُ ويقرأُها بتمعنٍ وبلهفةٍ وخوفٍ سألتهُ : أخبرني يا دكتور عن حالةِ مي ؟؟
لا أشعرُ بالراحةِ تجاهَ وضعها الصحي ، أُنظر لقد بدأ شعرها بالتساقط ، هل هذا طبيعي ؟
أرجوك أعطني خَيطًا من ذاكَ الأملِ الذي عنهُ يتحدثون لأَربطهُ بينَ قَلبينا ولتحيا ميٌّ في أمانٍ دون ألمٍ من لهيبِ السرطان .
أخذَ الطبيبُ يتفحصُ ملامحها ، وتناولَ سماعتهُ المُنسدلةَ على صدرهِ وبدأَ يُنصتُ لِضرباتِ قلبها المُنهكةِ ، وبَدت على وجههِ ضَحكةً ممزوجةً بذبذباتِ أملٍ عَصفت على جُدرانِ خوفي وأردفَ قائلًا : الجُرعةُ التي تم إعطاءها لِ ميٍ هذا اليوم هي الأخيرةُ في سِجلها العلاجي ، لكنَّ الحالةَ بشكلٍ عامٍ في تَحسنٍ وللهِ الحمد ، لقد راجعتُ اليومَ وصفَ حالتها المرضيةُ مُنذُ دخولها المستشفى إلى هذه اللحظة ، وتغيراتِ الحالةِ وتطوراتُ مقاومةِ مي للسرطان لَفتت نظري ، أرجوك يا حسن ان تبقى بجانبها فهذا يُعطيها حافزًا نَفسيًا للتماثُلِ للشفاء ،
وبالنسبةِ لِتساقطِ شعرها فلا تقلق فهذا الأمرُ طبيعيًا .
كان حديثُ الطبيبِ لازورديًا يَعزِفُ طربًا وشوقًا لرؤيةِ ميّّ في أَوجِ صحتها وبكاملِ حيويتها ، راودني شعورٌ ان أستفيقها لتستمعَ إلى حديثِ الطبيبِ كم هو مُريحٌ ومُفعمٌ بالأملِ الذي نحتاجهُ الآن .
نظرتُ إلى الطبيبِ الذي كانَ يَرقبُ نظراتي ل مَي وهمسَ لي قائلًا : هي بخيرٍ ثِقّ باللهِ يا حسن ، ورفعَ سماعتهُ الطِّبيةَ من أُذنيهِ وناولني إياها قائلًا : تفضل ، لا بُدَّ أنَّ مي تُريدُ اخباركَ بشيءٍ ما ، خُذها ولا تخجل ، وأنصت لها جيدًا فَلُغةُ القلوبِ تحتاجُ إلى الإنصاتِ فقط ، وغادرَ الغُرفةَ مُبتسمًا .
أمسكتُ بالسماعةِ كالقابضِ على الجمرِ ، فالشوقُ لقلبِ ميٍّ النابضِ لي على الدوام يخشى من الخُذلانِ ، اخشى أن أستمعَ إلى نبضٍ ضعيفٍ مُتعبٍ يُأَرقُ مُقلتي فتستوطنُ الخَشيةُ على مُهجةِ الروحِ بداخلي ، فلم أَعتد يومًا على وَهنٍ في قلبها ، ومن ناحيةٍ أخرى أخشى أن يَبوحَ قلبها بشيءٍ من الحنينِ الذي لا استحقهُ ، أخشى أن يُغدِقَ قلبها بترانيمِ الحبِّ الذي سَيؤلمني غيابهُ إن رحلت .
وضعتُ سماعةَ الطبيبِ في أُذنايَّ وبدأتُ أُنصتُ لحديثِ قلبها ، كم كانَ وَقعُ النبضِ لطيفًا على مسامعي ، كَنسمةٍ خَجلى تُداعبُ خُيوطَ الليلِ في ليلةٍ صيفيةٍ مُقمرةٍ ، وبدأَ قلبي يُشاركني الإنصاتَ لِنبضاتٍ لها الشوقُ في الحَشا يتأَججُ ، كانت نبرةُ الشوقِ طاغيةَ الحضورِ على مسامعي ، وبينَ النبضةِ والنبضةِ تَنهيدةُ حُبٍّ تَبوحُ بها ميٌّ رغمَ عجزها رغمَ مرضها ورغمِ غيابها عن عالمي في هذهِ الأثناء .
أَنصتُ و أَنصتُ ولم أملُّ من الإنصاتِ و أنا أُتابعها بعيناي ، وأُراقبُ وجنتيها الشاحبتين كما لم تكونا كذلك ، وفي هذهِ الأثناء رأيتُ شفتاها تتحركانِ بِبطئٍ وكأنها تُريد أن تقولَ لي شيءٌ ، دَنوتُ منها أكثر أزلتُ السماعةَ من أُذنايَّ وأجبتها : انا هُنا يا مي ، أنا بجانبك .
هَمست لي بهدوءٍ : حَسن ، حَسن وابتسمت ...
شعرتُ بسعادةٍ هزت عرشَ أَركاني ، خاطبتها : مي ، لا تُتعبي نفسكِ ، لقد تحدثتُ إلى الطبيبِ قبل قليلٍ و أخبرني أن الأمورَ على ما يُرام ، فقط كوني قوية .
وبعينيها الذابلتينِ نظرتْ إليَّ نظرةً قَطعت أواصري وأنا العاجزُ أمامَ ضعفها ، نَظرتْ وأَمعنتْ النظرَ وشدتّ حنينًا بأناملها المُتعَبة وقالت : لأجلكَ فقط سأكونُ بخيرٍ ، أَعِدُكَ .
ودارت رحى الذاكرةُ وأنا اتأملُ نظرتها التي انغرسَ ألمُ السرطانِ في ثناياها ، كيفَ التقينا صُدفةً بلا موعدٍ ، وكيفَ جاشَ الفؤادُ بحبها ، كيف تَحدينا صِعابَ العُمرِ سَويةً ليجتمعَ قلبينا على ذاتِ النبضِ ، كم تعاهدنا على البقاءِ على الوفاءِ ، و ها أنا على عهدي معها ، تراقصَ أمامَ عينايَ طيفًا لها في عنفوانها وفي حزنها وضحكها وجنونِ صمتها وجُموحِ لَعِبها ، هي الهواءُ الذي كان عليلًا عندما شَممتهُ ، والبلسمَ الشافي الذي أهجرُ الحياةَ عندما اراهُ .
وفجاةً قالت بصوتٍ خافتٍ : أجلسني يا حسن ، لقد مَللتُ الفِراشَ .
وفعلًا رفعتُ السريرَ وحملتها بينَ ذراعيَّ وشعرتُ بأنفاسها الدافئةِ تحرقُ وجنتي ، وضعتُ وسادةً خلف رأسها ورأيتها كما لو أنني أراها للوهلةِ الأولى ، شعرتُ وكأنها كالعروسِ في طلتها ، أَخذت وجنتيها تتوردانِ وبدت لي أنها تتعافى بالتدريج أمامي ، قالت : كم اشتقتُ إليكَ يا حسن ، اشتقتُ للبيتِ للشارعِ للهواءِ لضجيجِ الحياةِ وصَخبها ، سئمتُ من الأدويةِ و الأطباء و رائحة التعقيمِ ، اشتقتُ إلى حسن الحبيب الذي أغفو على ذراعهِ بلا وجلٍ .
أخرجني من هنا يا حسن أرجوك .
أَجبتها : لكن لا أدري ماذا سيكونُ رأي الطبيب في ذلك ؟ سأذهبُ لأستشيرهُ وأعود لا تقلقي .
هرولتُ إلى غرفةِ الطبيب ومشاعرُ قلبي تختلجُ بالفرحِ بالدمعِ بالحزنِ لا أدري !!!!!
طرقتُ البابَ واستأذنتُ وجدتهُ جالسًا يُراجعُ ملفاتِ المرضى ، قال : تفضل يا حسن ، أخبرتهُ بما حدث وبرغبةِ ميٍّ في الخروجِ من المستشفى ، و أنها تشتاقُ لكلُ ما هو خارجَ هذا المبنى .
تَبسمَ الطبيبُ من حديثي وقال : هذا الأمرُ طبيعيًا ، فهذا الشعور لدى جميع المرضى ، فما بالكَ بما عانتهُ مَي !!! سآتي الآن إلى غرفتها وأراها بنفسي .
رافقتُ الطبيبَ دخلتُ الغرفةَ والشوقُ يتضاربُ لاهثًا مع أنفاسي تُخالطني مشاعرَ الحبِّ للحبيبةِ .
دخلتُ وأنا أُناديها مَي ، مَي لقد حضر الطبيبُ ليراكِ عَلهُ يوافقُ على خُروجكِ برفقتي ، كانت نائمةً كالملاك مُتوردةَ الشفاهِ هادئةً رزينةً ، اقتربتُ وناديتُ الطبيبَ أُنظر كم هي جميلةٌ ، ها ما رأيكَ هل أستطيعَ ان أُخرجها اليومَ ؟
تقدم الطبيبُ وأخذَ يتحسسُ نَبضَ وريدها ، تناولَ سماعتهُ ليختطفَ سمعهُ صوتَ ضرباتِ قلبها ، و بأناملهِ أخذَ يفتحُ أجفانها ، حينها وكأنَّ رعشةً خفيةً ضَربت أوتارَ قلبي ، أمسكتُ بالطبيبِ وهززتُ كاهليهِ شاخصًا ببصري في عُنفوانهِ وصرختُ ساخطًا : ما بها ؟؟؟؟؟
أجابَ بكل حزنٍ لقد فارقت الحياةُ ، ورفعَ ذلكَ الغطاءَ المُنسدلَ على خصرها وغطى ملامحَ وجهها ، نَفَرت من عينيَّ دمعةً حرقت تجاويفَ قلبي و أزلتُ ذاكَ الغطاءَ عنها ، أخذتُ أتحسسها أُقبلها وأحتضنُ جسدها الباردَ الذي سكنتهُ رائحةُ الموتِ بلا هوادةٍ ،
صَرختُ بِملئِ جوارحي مي ، مي الآنَ كنتِ معي ، الآنَ هَمستِ لي بشوقِ الحبيب ، إلى أين والقلبُ في هواكِ مُتيمُ ، حضرَ الأطباءُ و التفوا حول السريرِ الذي تُسجى عليه محبوبتي ، أخذوها من بينِ أغلالِ أحضاني و أنا العاجزُ أمام ثنايا عمرها الغَضّ ، كيفَ غافلني المرضُ و وصلَ إليها ؟
كيف اجتاحَ الموتُ سِتارَ قلبي واغترفَ منهُ مَحبوبتي ؟
مَرّ الحدثُ وكأنهُ حلمٌ مُزعجٌ أتوقُ للإستفاقةِ منهُ ، يواسون قلبي المُنفطر ، يُربتونَ على كاهلي وهم هُنالكَ قد واروا جسدي حيثُ واروها ، تركتهم جميعًا وفررتُ إلى قبرها ، وحملتُ جذعًا من ياسمينةٍ كُنا قد غرسناها سَويةً في حديقةِ البيتِ ، وصلتُ إلى قبرها شعرتُ وكأنها تنتظرني ، تهفو للقائي ، جلستُ بجانبِ القبر أُناجيها ، أُحادثها وليغفو قلبي بجانب قلبها ، غَرستُ غصنَ الياسمينِ بجوار اسمها ليتعطرَ الياسمينُ من أنفاسِ مَحبوبتي .
#حلا لافي
فلسطين 🇵🇸الخليل