الجمعة، 18 أكتوبر 2019

ج2 من قصة بعنوان {{حكاية يد }} بقلم الاديب العراقي القدير الاستاذ {{رعد الامارة}}

(حكاية يد/الجزء الثاني ) 

أخذ  يحدق في صدرها العارم، كان بارزا بشكل ملفت للنظر، اخرجني من جيبه؛ رحت أتلفت، الملعون إنه يتلاعب بأصابع شقيقتي، راحت الأخيرة تنظر صوبي وقد ملأها الرعب، إنها تدرك أي لعبة يريد أن يلعبها، كانت تشعر بذلك، وقد انتقل شعورها هذا الي، فأمتلأت بالرعب انا الأخرى. دسني خلف رأسها، وانحنى كأنما كاد أن يقع، رفعت البنت رأسها فأصطدم بصرها في عينيه، ارتسمت في عينيها دهشة أحمر لها وجهها، كان قريبا منها، مما أتاح له فرصة  استنشاق رائحة جسدها الشبيهة برائحة التوت البري، اعتدل في وقفته لكنه ظل محدقا في صدرها الذي كان يترجرج تحت تأثير حركة الباص المستمرة،  مع ذلك لم يسحبني من خلف رأسها، كان شعرها الأشقر ناعما، اشعرني ذلك بالإثارة للحظة، لكن الفتاة يبدو أنها شعرت بما يدور خلف رأسها، إذ أنها سرعان ما اعتدلت في جلستها، بدت متضايقة جدا في هذه اللحظة، راحت تتأفف وتدير رأسها كعصفورة مذعورة.كانت شقيقتي مستقرة في هذه الأثناء إلى جانبه، لكنه فجأة حركها ورفعها إلى صدره،تركها لبرهة ساكنة هناك، ثم دفع بجسده وهوى للامام، صوب الفتاة التي شلتها حركته تماما، وجدت نفسي معلقة بحافة مقعدها، أما شقيقتي المسكينة فكانت في وضع لاتحسد عليه، إذ قبضت بأصابعها على نهد الفتاة الأيمن وتمسكت به! راحت  المرأة المسنة تحدق لشقيقتي بذهول ،مما جعل عينيها تتسعان، فيما انكمشت الفتاة على نفسها لبرهة ،لكنها مالبثت أن تحركت فتخلص نهدها من أصابع شقيقتي التي بقيت منكمشة! ثم حدثت جلبة سريعة، إذ أحاط بالصبي رجلان كانا يجلسان في المقعد الخلفي للفتاة، جره أحدهما للخلف، بعيدا عن الفتاة، فأرتفعت أصابع اختي دون تفكير وهوت الصفعة!التفت بعض الركاب، اخذوا يحدقون بفضول، فيما راح أحد الرجلين  يتحسس خده وقد اشتعلت عينيه غضبا، تبادلا لكمتين، كان الصبي قد أصبح أخيرا محاطا برجال آخرين، هوت الصفعات سريعة من كل الجوانب، كنت احدق رغم ذلك بشقيقتي التي نالها النصيب الأكبر من الضرب، الغبية كانت تحاول حماية وجه الصبي من آثار الضرب، أما أنا فقد تشبثت بحافة المقعد وكأني أصبحت جزءا منه. كانت الفتاة الشقراء قد لاذت بالمرأة المسنة، راحت الأخيرة تمسح على شعرها ، لكنهما ظلتا تحدقان بذعر في الصبي، الذي راح  يتلقى الضربات ويحاول قدر الإمكان اتقائها بساعده ويده اليمنى، أخيرا سحبه ثلاثة من الرجال،حاول التشبث في حافة باب الباص شبه المتوقف،شعر بالتعب، تلاشت مقاومته، وجد نفسه ينزلق على اسفلت الشارع، فيما راحت عجلات الباص تسابق الريح. كانت حركة شقيقتي ساكنة، عندما تحركت صوبها، ظننتها نائمة، لكن حينما تحركت رؤوس اصابعها بصورة ضئيلة، أدركت أنها مستيقظة، تألمت كثيرا لحالها، وهالني منظر الأربطة والضمادات التي كانت تحيط بها هي والساعد المسكين، مسحت على ظهرها بود، شعرت بي ،فندت عنها حركة أشبه بتحية مبتورة، آه ،ماذا  فعل بك هذا الصبي الأحمق، هكذا همست لها ولنفسي! كان الصبي ممددا على سرير كبير بأغطية بيضاء، وقد أحاط به والداه، كان قلقا لكن ليس متألما جدا، تدور عينيه في أرجاء المكان، مثل أرنب مذعور،همست له أمه مداعبة :
-لقد آن الأوان لتتخذ لك صديقة، أصبحت كبيرا حبيبي. رمش في وجهها، لكنه سرعان ما خفض بصره، وهو يرى لمعان  عينيها، خطا أباه نحوه، رفع بصره، حدق الإثنان في بعضهما بثبات، قال كأنما يحدث نفسه :
-ابي، أنا آسف لما حدث! لقد أربكت حياتكما فعلا، حسنا، لقد فكرت كثيرا بالأمر، أعني أنني قررت التطوع للقتال، سأصبح مجندا في الجيش الأمريكي، أشعر بأن ماحدث كان صفعة كبيرة في حياتي، انت تفهم حتما ابي!؟. هز أباه رأسه مرات عدة، كان أثناء ذلك يرمق زوجته بطرف عينه، وحينما حاولت  هذه  الكلام، وضع يده على كتفها ثم راح يضغط برفق.انقضت أشهر الصيف أخيرا، كانت مشاركة الصبي الكبير في بعض المعارك الصغيرة قد جعلت منه رجلا آخر، أصبح متزنا نوعا ما ومستقرا، وحتى ابتسامته النادرة أضحت مليئة بالمرارة والسخرية، لكنه ظل  عاشقا ودودا رغم ذلك، لم تعد صدور الفتيات تثيره، وفي أثناء الإجازات كانت يكتفي بقضاء أكبر وقت ممكن مع أسرته، بمصاحبة حبيبته ذات الشعر الأسود الغزير ،كان سعيدا بما أصبح عليه، رغم إنه ظل دائم الشرود.مرت بعد ذلك مواسم عديدة، كنا أنا وشقيقتي قد نسينا الماضي البغيض وارضانا تماما، ما أصبح عليه الصبي الكبير، لقد صار حذرا وشاطرا في استخدامنا والتعامل معنا، كان يعتني بنا جيدا طوال هذه الفترة، وبمرور الوقت أصبحنا صلبتين، وتقدم بنا العمر شيئا فشيئا. جرت بعد ذلك الأمور بسرعة كبيرة، كانت تلك المعركة هي الوحيدة التي اضطرت فيها شقيقتي لتجربة استخدام السلاح بصورة حية، كنا نعمل كفريقين معا، نحتضن السلاح ونتقدم كما يفعل الآخرون،كانت تجربة السلاح بالنسبة لنا قد ادخلتنا في فصل من الهستيريا والغضب، ثم تعرضنا لكمين! لقد اندفعنا كثيرا للامام، وقد قذفت قوة إنفجار العبوة الناسفة بالصبي الكبير بعيدا، تحسست إصابته، كان مغطى بالتراب، وبحثت عن شقيقتي التي كان من المفروض أن تقوم هي بذلك، تبا! كانت ممدودة إلى جانبه وقد اصطبغت كلها بلون أحمر قان، زحفت نحوها، كان الصبي الكبير يتأوه بضعف، أما شقيقتي فكانت ساكنة تماما إلا من حركة ضئيلة جدا من أطراف الأصابع، وكأنها تودعني. كان يتقدمني بخطواته، أما أنا فكان لي شرف حمل الزهور، إنها باقة جميلة جدا، بذل الصبي الكبير الذي أصبح رجلا أخيرا بمعنى الكلمة، بذل جهدا طيبا في اختيارها، كان الممر الطويل المتشعب إلى عشرات من الممرات ،مرصوفا بشتى أنواع الزهور، أما المقبرة نفسها فكانت واسعة،ويخيم عليها سكون لايقطعه إلا أصوات زقزقة العصافير مابين الحين والآخر، كانت شقيقتي ترقد هنا، تماما حيث توقفت خطوات الصبي الكبير، تأملنا المكان سوية، تنهد ثم انحنى، رمقني بنظرة تفاهم ودية، وضعت الأزهار بهدوء تام، بقي منحنيا للحظات، لمحت عينيه، كانتا تلمعان كما لم تفعلا من قبل! أسرعت إليه وهو ينهض، مسحت بأطراف الأصابع دمعة كادت أن تقع، تراجع للخلف، امتدت بثقة أطراف اصابعي نحو الكم الفارغ، تأوه، لكنني رحت اربت على صدره بشكل اثار انتباهه، وحينما نظر الي واصلت التربيت وكأنني اقول له:
-لاتخف، مازلت معك. (تمت )

بقلم /رعد الإمارة /العراق 
18/10/2019 الخميس

ليست هناك تعليقات: