(متاهة/الجزءالرابع)
خرجنا من المحل ذو الواجهة الزجاجية الكبيرة دون أن نبتاع شيئا، تلفنا يمنة ويسرة ،كان الرجل ذو الملامح السمراء والعيون النرجسية قد ذاب واختفى، حانت مني نظرة صوب ميس، وددت سؤالها عن محطتنا القادمة، ياالهي! كانت شاحبة وقد زاغت عينيها، أمسكت بساعدها، جررتها وانتحيت بها جانبا، هتفت بها :
-عزيزتي مابك، هل أنت مريضة!؟أجابت بأستنكار وهي تقف بكامل نشاطها :
-لا، فقط ذلك الرجل الفظ ، لقد سرق هذا. ثم أشارت إلى قلبها وهي تضحك، حدقت فيها، لكني لم أفهم إن كانت جادة ، أو أنها كانت تمزح فحسب. كان البرد قد بدأ يبعث برسائل إنذار الى جسدي، قطعنا الشارع إلى الجهة الثانية، تمنيت لحظتها لو أننا هرولنا قليلا، وكأن الأمنيات تنتقل بسرعة، إذ فاجأتني ميس بقولها :
-هل انت مستعدة، هيا. رفعت حاجبي متسائلة عن معنى قولها، لكنها جذبت يدي ،ثم راحت تهرول وهي تسحبني خلفها، كنا نلهث لكن الدفء سرعان ماتسلل إلى أجسادنا، قالت من بين أنفاسها:
-انا جائعة، ثمة فطائر طيبة هناك أمامنا، وقهوة، هيا بسرعة يابدينة.كان كشك الفطائر المزين بالأشرطة الزاهية الملونة متواضعا، مع ذلك فقد كان مزدحما، انتظرنا قليلا ريثما تفرغ واحدة من الموائد المنتشرة حوله، أخذنا نفرك أيدينا بسرعة، بحثا عن مزيد من الدفء، كان المساء قد حل وتحولت المدينة إلى شعلة من الأنوار، أخيرا قادنا النادل إلى واحدة من الموائد، لحظات ثم تصاعد البخار الساخن من قدحي القهوة ،فيما توسط المائدة طبق كبير من الفطائر المنوعة، راحت ميس تلتهم فطيرة الجبن بالزعتر بلذة واضحة، أما أنا فقد فضلت تناول فطيرة البرقوق الصغيرة والتي يتفنن أصحاب الكشك في إعدادها، كان هذا ما اخبرتني به ميس المشاكسة. لا أعرف كيف أصف ماحدث، وكأن الأرض انشقت فأخرجت صاحب العيون النرجسية من جوفها ، كان يجلس في مواجهتي، لايفصله عنا سوى مائدتين، اشحت ببصري بعيدا عنه، لكن عيني عادتا لترمقانه رغما عني، كان مشغولا بأرتشاف قدح القهوة بين يديه وكأن لاهم له سواه، أخذت أسأل نفسي، هل تراه يتعمد ذلك، أم أنه فعلا هائم في عالمه الخاص به، طيب، هل أخبر ميس،الن تغضب اذا فعلت!؟مددت اصابعي ببطء، كانت ميس قد قطعت شوطا في التهام الفطيرة الثانية، قرصتها من اصابعها قبل أن تختطف كوب القهوة، حدقت في وابتسمت من بين فتات الطعام، الذي امتلأ به فمها ،هزت رأسها كأنما تسأل عن السبب، اومأت لها بحاجبي إلى ماخلف ظهرها، كفت عن المضغ للحظة، استدارت متتبعة نظرة عيني، ظلت هكذا للحظة، لكنها مالبثت أن استدارت نحوي وقد امتقع وجهها. قالت فيما كانت اصابعها تداعب فتات فطيرتها :
-هل تظنين إنه يلاحقنا!؟
-لا، قد تكون صدفة!كما ترين هذا المكان مميز، من يعلم. كانت ميس قد وضعت ثمن الفطائر جانبا، اومأت لي برأسها، لم يرفع رأسه عندما مررنا بقربه وحاذيناه، كان يحدق في فراغ الفنجان بأهتمام ، وكأنه أحد العرافين . التفتت ميس للخلف أثناء سيرنا، وكذلك فعلت انا بعد فترة، لكن لا أثر لما ظنناه، وقبل أن ندخل للدار الأنيقة من الباب الكبير وضعت يدي برفق على كتفها وقلت :
-أظنه كان معجبا جدا بك. تركتها واقفة في مكانها ،رحت ارتقي درجات السلم بسرعة، وعندما التفت للخلف ،كانت ماتزال في مكانها لم تتحرك،وكأنها سمرت للأرض. كانت الأيام تمضي بسرعة؛ وكنت قد انتظمت للدراسة في هذا البلد ،وهو ماشجعني لأكتشاف عالم جديد وبيئة أخرى، حاولت معرفة نفسي مجددا،وبذلت جهدا للتصالح مع ذاتي، كنت أبحث صادقة عن جذور لي، لكن خيباتي عادت تطفو من جديد، فبأستثناء ميس لم أجد مايربطني بهذه الأرض، كان ثمة برود يخيم على النفس البشرية هنا، الابتسامات ميتة، الحنان مفقود، المودة شبه معدومة، بأختصار لم يكن ثمة تآلف كالذي عندنا هناك في الشرق!أتاح لي ارتباطي الوثيق بميس على الغوص في أعماقها ومعرفتها حتى أكثر من نفسها، أخبرتني عن سر وجوم والدها الدائم، قالت إن صدمة فقدان أمها قد فطرت قلبه تماما، وأن أكثر متعة بالنسبة له هي في التجوال بسيارته وتأمل الطبيعة، كانا يفعلان ذلك دائما معا، الآن هو يقوم بذلك بمفرده!أما عمتي فكانت هي صمام الأمان لتعلقنا ببعضنا، إذ كانت تضفي بوجودها لمسة حنان لما يجب أن تكون عليه علاقتنا مع بعضنا ومع الآخرين.(يتبع )
بقلم /رعد الإمارة /العراق
21/10/2019 الاثنين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق