الأربعاء، 9 أكتوبر 2019

قصة بعنوان {{صاحب اللحية البيضاء}} بقلم الكاتب العراقي القدير {{رعد الإمارة}}

(صاحب اللحية البيضاء)
 وقف عند المرآة الصقيلة المثبتة بالجدار، في غرفته المتواضعة،والواقعة في أحد الأحياء الشعبية من منطقة العلاوي، تأمل الغضون والتجاعيد التي طفح بها وجهه وتحسر، لولا المرآة لظلت أكثر خيباتنا مطموسة! مسد بأصابعه لحيته الفضية التي اختلط سوادها ببياضها ،مسح الغرفة بنظراته كالعادة، لا شىء يدعو لأثارة الإنتباه أو الإهتمام، كل مايملكه من حطام الدنيا في هذه الغرفة، يدعو للرثاء فحسب!وضع في كفه بضع قطرات من زجاجة العطر، التي أوشكت على لفظ أنفاسها الأخيرة، تنهد وهز رأسه كمن يعتب على الزمن، فر من غرفته سريعا، اطبق الباب، راح القفل يهتز هزات بطيئة مملة، حتى همدت حركته. استقبلته ضجة الشارع،كان كل شىء يتحرك تقريبا نحو هدف معلوم، البشر والسيارات وحتى الحيوانات السائبة، إلا هو! بقي واقفا للحظات يرمش بعينيه، مسد شعر لحيته ثم قطع الشارع بخطوات سريعة. لام نفسه وهو يتحرك صوب هدفه المنشود، سحقا لتفكيري الأخرق، كيف أصبحت بهذا الجحود، قد أكون من أسعد الناس حظا، إن هدفي المنشود واضح تماما، أن تعيش لأجل إسعاد الآخرين يعتبر من أنبل الأهداف واسماها، أوف ياربي، ها هو هدفي المنشود الحلو ،يترجل من سيارة الأجرة ويمشي نحوي، يالي من أحمق!وقفت في مواجهته، وضعت كلتا يديها بين كفيه، ثم أشرقت ابتسامتها وقالت :
 -هل تأخرت عليك، الزحام فظيع حبيبي، هل صحتك تمام!؟أنا جائعة. لمعت عيناي رغما عني، يحدث هذا في كل مرة تقول أنا جائعة، قبضت على كفها الطري، رحنا نمشي على الرصيف، كان كتفانا يلتصقان ثم يفترقان على وقع خطواتنا، توقفنا عند بائع الفاكهة العجوز الذي كان يفترش ببضاعته جزءا من الرصيف، همست في أذني :
 -دعني أنا أختار. ثم ضحكت وغمزتني،مدت اصابعها الرشيقة نحو فاكهة الكيوي، راحت تجس بالسبابة والابهام، كنت اراقبها بفرح، نسيت كل خيباتي مع الزمن، ورميت كآبتي خلف جدار النسيان، ياربي كم اني بصدق اشكرك على هذا الكائن العذب الذي ساندني في الحياة، سمعت البائع يقول لها :
 -لدي صندوق منها، صندوق آخر لم ابع منه بعد. قال هذا وأشار بيده المعروقة لصندوق بالقرب منه، وجدتها تنهض بنشاط ثم تتحرك نحو الصندوق ،دون أن تنظر نحوه أو تشكره حتى! راحت تختار بعناية هذه المرة، ما احلاها وهي مقطبة الجبين، وضعت الكيس بين يدي البائع العجوز ثم راحت تراقب الميزان، شعر بها الرجل فوضع ثمرتين زيادة، حمل الكيس والقاه بين كفيها وابتسم لها، شكرته دون أن تبتسم،ثم ارتدت للخلف، دفعت للرجل العجوز ثمن الكيوي، منحتني كفها، ثم سحبتني وهي تبتسم بوجهي، قلت لها قبل أن أوقف سيارة أجرة :
 -أظن أن العجوز أعجب بك، كنت اراقبه، حتى وجهه أحمر وهو يكلمك. رفعت وجهها الي، عقدت مابين حاجبيها، قرصتني فجأة في خاصرتي وابتسمت، ثم قالت :
 -أعرف، شعرت بهذا،لكن أنا أحبك انت ياعجوزي الحلو، آه لو تعرف كم اعشق بياض لحيتك. ثم راحت تتنهد. أحمر وجهي، لم تكن المرة الأولى التي تتغزل فيها بلحيتي البيضاء،أوقفت السيارة، فتحت لها الباب الخلفي، انطلقت بنا، شعرت بأصابعها على كتفي، أغمضت عيناي، فيما كان النسيم العذب يلفح وجهي. في حديقة الزوراء ،انتبذنا مكانا منعزلا قدر الإمكان، رغم ذلك فالصبية بائعة الأزهار سرعان مالحقت بنا، ويبدو إنها كانت تراقبنا، قالت بعد أن سلمت وبلهجة بدت ريفية :
 -خوش ورد، اشتري لبنتك هاي الوردة. اتسعت عيناي رعبا وخجلا وغضبا، وجدت نفسي اطردها شر طردة، وأنا الذي كنت أنوي شراء بعض الورد منها!كانت ملامح وجهي تنطق بألم شديد، هل أصبحت عجوزا لهذه الدرجة. راحت حبيبتي تعبث بحقيبتها، لم تعلق لا من قريب ولا من بعيد على الحادثة، حتى إنها لم تضحك أو تبتسم، مسكينة أعرف إنها تتألم لمعاناتي! وجدتها تضرب على ركبتها بكفها،ثم تشير بأصابعها إلى رأسي، لم أفهم معنى حركتها في بادىء الأمر، رحت احدق في وجهها ببلادة ،قالت :
 -ضع رأسك الحلو هذا هنا.اشارت إلى ركبتها، لمحت بين اصابعها منقاشا ،راحت تحركه في الهواء بطريقة فكاهية وكأنها تنتزع شعرا وهميا، لم أستطع معارضتها، فأنا اعرف عنادها، سرعان ماوضعت رأسي واستسلمت تماما لها، حتى أنني أغمضت عيني. لفحت أنفاسها الطيبةوجهي، فتحت عيناي، وجدتها تحدق في، ابتسمت ولوحت بالمنقاش وقالت :
 -هل حبيبي مستعد. اومأت برأسي، انحنت ثم انتزعت أول شعرة، يارب السماء، خرجت الآه طويلة من بين شفاهي، كان الشعر قاسيا وجذوره تمتد عميقا،سمعتها تهمس بعذوبة : 
-فقط في بداية الأمر سيكون ثمة ألم، بعد ذلك ستشعر بخدر لذيذ،سترى بنفسك. نسيت وجعي كله، كان انحنائها القريب جدا من وجهي قد أتاح لي فرصة تأمل عينيها، يا الله ما اجملهما، عيناها ملونتان وآسرتان جدا، تبا أنها تحدق في، لقد اصطادتني أخيرا، كفت لحظة عن عملها، تأملتني ثم همست: 
 -سأنتهي قريبا. قلت لها وعيناي تحدقان في العشب الأخضر:
 -لا فائدة من إصلاح عجوز مثلي، ربما قد فات الأوان. جذبت الشعرة النافرة بقوة من خدي،ثم راحت تلوح بالمنقاش عاليا وكأنها في سبيلها لغرزه في عيني، كان ثمة شرر يتطاير من عينيها، قالت بغضب واضح :
من قال إنك عجوز، هل هو تفكيرك ،أم إن أحمقا ما،أدخل هذه الفكرة برأسك!؟طيب إذن، انت عجوز، لكنك عجوز غبي! ولن تفهم النساء ابدا.
 لم انبس بحرف، كنت أعرف إنها تغلي مثل بركان الآن، أغمضت عيني فيما راحت هي تحرث بمنقاشها تضاريس وجهي دون كلل أو ملل. بعد لحظات أمسكت بوجهي، شعرت بها تتأمله، هتفت : 
-لقد انتهينا، بوسعك الجلوس الآن. رفعت رأسي، تحاشيت النظر إليها، دفعت بسبابتها تحت ذقني، رفعته فألتقت نظراتنا، دنت مني حتى كادت أن تلتصق بي، نظرت يمينا وشمالا، ثم وجدتها تقبلني فجأة من فمي قبلة طويلة، عندما ابعدت فمها كان صدرها يعلو ويهبط، همست وهي تبتسم في وجهي :
 -الآن أصبحت تعرف كم أحبك ياعجوز. هربت بنظراتي، رحت اجذب العشب وانا أفكر بالربيع الذي اعادته هذه الأنثى لي. 

 بقلم /رعد الإمارة /العراق

ليست هناك تعليقات: