تعاويذ القرود
ــــــــــــــــــــــ
د. خالد الزغيبي
تداعى رواد السيرك من كل حدب وصوب ، شباك حجز التذاكر صار أشبه ما يكون بنهر تشعب عن مجراه عديد الجداول ، الكل في شوق ولهفة للعرض الكبير الذي وعد به ساحر السيرك جمهوره .
تتالت الأحاديث الجانبية بين المتراصفين سيما وأن الساحر قد وعدهم في العرض الفائت بمفاجأة مذهلة ، وعرض سحري غير مسبوق سيكون محل أحاديثهم لفترات طويلة .
قال أحدهم : ترى ماذا يخبئ لنا الساحر من مفاجآت !
وقال آخر : لعله يحيل حماماته إلى أميرات !
وقال ثالث : هناك أخبار أنه سيقطع إنسان نصفين ثم يعيده !
هكذا توالت التكهنات دون قطع بحقيقية العرض وما سيبهر به الساحر جمهوره .
اختفت طوابير حجز التذاكر ، انتظم الجميع على كراسيهم داخل خيمة السيرك ، توالت العروض ، ثم جاء دور الساحر.
أخذته خطاه إلى مقدمة المسرح لمواجهة الجمهور ، رفع قبعته لأجل جمهوره وحياه ، صفق له الجمهور ، بعضهم اقشعر بدنه وبعضهم انتصب واقفاً ، والبعض الأخر آثر التصفيق ، في حين تولى نفر من القوم أمر إشعال الخيمة بالصفير ، وحظيت منصة وجهاء المدينة بتصفيق لا يخلو من الرزانة ، أما الضيوف الأعمق وجاهة في هؤلاء فقد مارسوا عادة هز الرأس البروتوكولية التي تذكرنا بنواب البرلمانات حين يُلقي ضيفاً أجنبياً خطاباً بلغة مغايرة ويتظاهرون وكأنهم يدركون ما يرمى إليه.
بدأ العرض ، أخرج الساحر عصى من جيبه ، صيرها طويلة بعض الشيء ، أشار إلى كوة فى إحدى جنبات المسرح ، على الفور دلفت مجموعة من القرود ينيف عددها على العشرين قرد إلى ساحة العرض، حيت بدورها ـ القرود ـ الجمهور بأمر من الساحر ، وشرعت تتراصف ثم شكلت شبه دائرة حول الساحر، وبصافرة من الساحر تقدم نحوه كبير القردة والذى يبدو واضحاً أنه الأكبر نفوذا فى مجموعته ويبدو أن كبر عمره وحجمه معاًَ منحتاه تلك المكانة ، أشار إليه الساحر فإذا به يتراجع إلى مجموعته وشرع في التبختر أمامهم وكأنه أراد أن يبرز لمجموعته ما الذي تعنيه الأقدمية وكيف أن القيادة ليست في مقدور الجميع .
وبصافرة من الساحر تجمد الجميع ، ساد الصمت لبرهة ، شرع الساحر فى تلاوة تمتمات غير معلومة ، بدأت القرود فى الانهيار على خشبة المسرح واحداً تلو الآخر ، والمثير أن كبير القردة ظل أثناء ذلك يهز رأسه على نحو ملفت فيما بدا وكأنه يحمل اعتراض على نحو ما على ما يحدث ، بدا للجميع أن الأمر اعتياديا .
تبادل كبير القردة أثناء توتره بعض النظرات المريبة مع الساحر ، قفز نحو جماعته المنهارة ، كأنه أراد إيقاظهم من سباتهم العميق ، اتجه نحو الساحر ، قابله وجهاً لوجه ، شرع هو الآخر يحرك شفتيه حيث بدا وأنه يتمتم على نحو ما يفعل الساحر ـ ولكل لغته وتمتماته ـ لم يتوقف الساحر وكذلك كبير القرود ، أما الطير فقد عشش فوق رؤوس الجمهور الغارق في ميثولوجيته بدت المواجهة بين الساحر وكبير القردة وكأنها محاججة بين بطلين متنافسين على بطولة في حلبة مصارعة قبل مباراتهم الفاصلة.
رسم الزبد المتناثر تجمعين كبيرين من الزبد على طرفي فم الساحر ، فى حين سال اللعاب على نحو مثير من بين شفتي القرد الغارق في طقسه ، وعلى نحو ما تراجع الساحر خطوة للخلف ثم جثى على ركبتيه رافعاً يديه فى مواجهة القرد وكأنه يتقي بيديه شيئاً ما ، فى حين بقي القرد من مكانه يمارس طقسه وما هي إلا لحظات حتى سقط الساحر وكأنه مغشياً عليه .
عاصفة من التصفيق اجتاحت صالة العرض ، لدقائق استمر التصفيق ، تضائل التصفيق حتى اختفى ، ساد الصمت وبقى الانتظار هو حاكم الموقف ، لبعض الوقت استمر هذا الحال ، ودون أي مقدمات توجه كبير القردة إلى بني جلدته الغارقين في سباتهم ، صاح فيهم على نحو متكرر حتى أيقظهم جميعاً ، راحوا يتكاسلون يتثاءبون ولكنهم ما فتأوا أن سرى بينهم النشاط وأخذوا يتقافزون على ساحة العرض، جيئة وذهابا ، تفقدوا جميعاً جسد الساحر المسجى على الأرض ، مد أحد القردة يده إلى احد جيوب الساحر واخرج منه صافرة ، على الفور التقطها واخذ يصفر بها .
إلتقط كبير القردة عصا الساحر من فوق الأرض وراح يحركها وكأنه مايستروا يسبح على أوتار سيمفونيته المحببة ، عاث القردة فى ساحة العرض ، وفي حين بقيت آذانهم تصغى للصافرة بقيت عيونهم كذلك فى معظم حركاتهم متعلقة بجسد الساحر المسجي. لحظات وبرز قرد بيده حقيبة اعتاد الجمهور أن يراها فى يد الساحر ولكن ..! كان هذا يحدث قرب موعد انتهاء العرض .! حركها يمنا يساراً إلى الأعلى إلى الأسفل ، ثم ألقاها على الأرض تحت قدمه فإذا بها وقد انفتحت من وقع اصطدامها بالأرض ، جلس القرد ووضعها بين قدمية ، راح يعبث بها ، بدت تخرج من مكان ما اللعاب نارية داخل الخيمة ، تتالى إطلاق الألعاب النارية يمينا ويسارا .
شرعت حيوانات السيرك فى الدخول إلى ساحة العرض ، ازدحمت الساحة بالحيوانات ، عمت الفوضى بينهم ، اقترب حمار الوحش من جسد الساحر اقترب منه واستدار وركله بقدميه الخلفيتين فقذفته الركلة إلى ركن بعيد في ساحة العرض حتى أنه كاد أن يقع فى اتجاه الجمهور ، لولا بعض العوائق من صغار الحيوانات كالكلاب والهررة والنسانيس وغيرها من المخلوقات التي أعاق اصطدامه بها وقوعه في جانب الجمهور.
ازدادت وتيرة الألعاب النارية ، ارتطم بعضها بأسدال الخيمة وجنباتها ، شرعت الخيمة في الاحتراق ، هاج الجمع ، بشراً وحيوانات ، الكل أصابه الذعر ، الكل صار يبحث له عن مخرج ينجيه من الحريق ، إلا الساحر فقد بقي هناك حيث هو لا تحركه سوى أقدام الهاربين .
تحدثت صحف الصباح عن حريق السيرك ، وفي الظهيرة جرى تعداد الضحايا والإفصاح عن أسمائهم وصفاتهم ، وتحدثت بعض العواجل فى الشاشات عن حيوانات مفترسة تهيم على وجهها فى المدينة ، تحدث شاهد عيان عن أسد قطع الطريق فى اتجاه قوم بينه وبيهم عداوة سابقة فتركه ولم يشأ أن يصيبه ببندقيته .
عن عبث القرود بأعمدة المدينة وأشجارها تحدثوا ، تحدثوا عن كل شيء ، فسروا كل شيء ، بيد أنهم لم يتحدثوا ولو مرة واحدة عن تعاويذ القرود .
ــــــــــــــــــــــ
د. خالد الزغيبي
تداعى رواد السيرك من كل حدب وصوب ، شباك حجز التذاكر صار أشبه ما يكون بنهر تشعب عن مجراه عديد الجداول ، الكل في شوق ولهفة للعرض الكبير الذي وعد به ساحر السيرك جمهوره .
تتالت الأحاديث الجانبية بين المتراصفين سيما وأن الساحر قد وعدهم في العرض الفائت بمفاجأة مذهلة ، وعرض سحري غير مسبوق سيكون محل أحاديثهم لفترات طويلة .
قال أحدهم : ترى ماذا يخبئ لنا الساحر من مفاجآت !
وقال آخر : لعله يحيل حماماته إلى أميرات !
وقال ثالث : هناك أخبار أنه سيقطع إنسان نصفين ثم يعيده !
هكذا توالت التكهنات دون قطع بحقيقية العرض وما سيبهر به الساحر جمهوره .
اختفت طوابير حجز التذاكر ، انتظم الجميع على كراسيهم داخل خيمة السيرك ، توالت العروض ، ثم جاء دور الساحر.
أخذته خطاه إلى مقدمة المسرح لمواجهة الجمهور ، رفع قبعته لأجل جمهوره وحياه ، صفق له الجمهور ، بعضهم اقشعر بدنه وبعضهم انتصب واقفاً ، والبعض الأخر آثر التصفيق ، في حين تولى نفر من القوم أمر إشعال الخيمة بالصفير ، وحظيت منصة وجهاء المدينة بتصفيق لا يخلو من الرزانة ، أما الضيوف الأعمق وجاهة في هؤلاء فقد مارسوا عادة هز الرأس البروتوكولية التي تذكرنا بنواب البرلمانات حين يُلقي ضيفاً أجنبياً خطاباً بلغة مغايرة ويتظاهرون وكأنهم يدركون ما يرمى إليه.
بدأ العرض ، أخرج الساحر عصى من جيبه ، صيرها طويلة بعض الشيء ، أشار إلى كوة فى إحدى جنبات المسرح ، على الفور دلفت مجموعة من القرود ينيف عددها على العشرين قرد إلى ساحة العرض، حيت بدورها ـ القرود ـ الجمهور بأمر من الساحر ، وشرعت تتراصف ثم شكلت شبه دائرة حول الساحر، وبصافرة من الساحر تقدم نحوه كبير القردة والذى يبدو واضحاً أنه الأكبر نفوذا فى مجموعته ويبدو أن كبر عمره وحجمه معاًَ منحتاه تلك المكانة ، أشار إليه الساحر فإذا به يتراجع إلى مجموعته وشرع في التبختر أمامهم وكأنه أراد أن يبرز لمجموعته ما الذي تعنيه الأقدمية وكيف أن القيادة ليست في مقدور الجميع .
وبصافرة من الساحر تجمد الجميع ، ساد الصمت لبرهة ، شرع الساحر فى تلاوة تمتمات غير معلومة ، بدأت القرود فى الانهيار على خشبة المسرح واحداً تلو الآخر ، والمثير أن كبير القردة ظل أثناء ذلك يهز رأسه على نحو ملفت فيما بدا وكأنه يحمل اعتراض على نحو ما على ما يحدث ، بدا للجميع أن الأمر اعتياديا .
تبادل كبير القردة أثناء توتره بعض النظرات المريبة مع الساحر ، قفز نحو جماعته المنهارة ، كأنه أراد إيقاظهم من سباتهم العميق ، اتجه نحو الساحر ، قابله وجهاً لوجه ، شرع هو الآخر يحرك شفتيه حيث بدا وأنه يتمتم على نحو ما يفعل الساحر ـ ولكل لغته وتمتماته ـ لم يتوقف الساحر وكذلك كبير القرود ، أما الطير فقد عشش فوق رؤوس الجمهور الغارق في ميثولوجيته بدت المواجهة بين الساحر وكبير القردة وكأنها محاججة بين بطلين متنافسين على بطولة في حلبة مصارعة قبل مباراتهم الفاصلة.
رسم الزبد المتناثر تجمعين كبيرين من الزبد على طرفي فم الساحر ، فى حين سال اللعاب على نحو مثير من بين شفتي القرد الغارق في طقسه ، وعلى نحو ما تراجع الساحر خطوة للخلف ثم جثى على ركبتيه رافعاً يديه فى مواجهة القرد وكأنه يتقي بيديه شيئاً ما ، فى حين بقي القرد من مكانه يمارس طقسه وما هي إلا لحظات حتى سقط الساحر وكأنه مغشياً عليه .
عاصفة من التصفيق اجتاحت صالة العرض ، لدقائق استمر التصفيق ، تضائل التصفيق حتى اختفى ، ساد الصمت وبقى الانتظار هو حاكم الموقف ، لبعض الوقت استمر هذا الحال ، ودون أي مقدمات توجه كبير القردة إلى بني جلدته الغارقين في سباتهم ، صاح فيهم على نحو متكرر حتى أيقظهم جميعاً ، راحوا يتكاسلون يتثاءبون ولكنهم ما فتأوا أن سرى بينهم النشاط وأخذوا يتقافزون على ساحة العرض، جيئة وذهابا ، تفقدوا جميعاً جسد الساحر المسجى على الأرض ، مد أحد القردة يده إلى احد جيوب الساحر واخرج منه صافرة ، على الفور التقطها واخذ يصفر بها .
إلتقط كبير القردة عصا الساحر من فوق الأرض وراح يحركها وكأنه مايستروا يسبح على أوتار سيمفونيته المحببة ، عاث القردة فى ساحة العرض ، وفي حين بقيت آذانهم تصغى للصافرة بقيت عيونهم كذلك فى معظم حركاتهم متعلقة بجسد الساحر المسجي. لحظات وبرز قرد بيده حقيبة اعتاد الجمهور أن يراها فى يد الساحر ولكن ..! كان هذا يحدث قرب موعد انتهاء العرض .! حركها يمنا يساراً إلى الأعلى إلى الأسفل ، ثم ألقاها على الأرض تحت قدمه فإذا بها وقد انفتحت من وقع اصطدامها بالأرض ، جلس القرد ووضعها بين قدمية ، راح يعبث بها ، بدت تخرج من مكان ما اللعاب نارية داخل الخيمة ، تتالى إطلاق الألعاب النارية يمينا ويسارا .
شرعت حيوانات السيرك فى الدخول إلى ساحة العرض ، ازدحمت الساحة بالحيوانات ، عمت الفوضى بينهم ، اقترب حمار الوحش من جسد الساحر اقترب منه واستدار وركله بقدميه الخلفيتين فقذفته الركلة إلى ركن بعيد في ساحة العرض حتى أنه كاد أن يقع فى اتجاه الجمهور ، لولا بعض العوائق من صغار الحيوانات كالكلاب والهررة والنسانيس وغيرها من المخلوقات التي أعاق اصطدامه بها وقوعه في جانب الجمهور.
ازدادت وتيرة الألعاب النارية ، ارتطم بعضها بأسدال الخيمة وجنباتها ، شرعت الخيمة في الاحتراق ، هاج الجمع ، بشراً وحيوانات ، الكل أصابه الذعر ، الكل صار يبحث له عن مخرج ينجيه من الحريق ، إلا الساحر فقد بقي هناك حيث هو لا تحركه سوى أقدام الهاربين .
تحدثت صحف الصباح عن حريق السيرك ، وفي الظهيرة جرى تعداد الضحايا والإفصاح عن أسمائهم وصفاتهم ، وتحدثت بعض العواجل فى الشاشات عن حيوانات مفترسة تهيم على وجهها فى المدينة ، تحدث شاهد عيان عن أسد قطع الطريق فى اتجاه قوم بينه وبيهم عداوة سابقة فتركه ولم يشأ أن يصيبه ببندقيته .
عن عبث القرود بأعمدة المدينة وأشجارها تحدثوا ، تحدثوا عن كل شيء ، فسروا كل شيء ، بيد أنهم لم يتحدثوا ولو مرة واحدة عن تعاويذ القرود .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق