(ذات الشعر الأشقر/الجزء الثالث )
أشارت بيدها وهي تهمس بصوتها الطفولي الحلو:
-انظر تلك البيوت المتفرقة، ذاك بيتنا ذو النور الأصفر الشاحب، لقد اوشكنا على الوصول.
كنت أستطيع من خلال الأنوار الباهتة المتفرقة تمييز دارهم، التي كان يخيم عليها السكون، مع ذلك كان المكان شبه المهجور، والمحاط ببحيرة صغيرة وبضعة أشجار عملاقة ،يعج بنقيق الضفادع، توقفت خطواتنا عند شجرة سرو عملاقة،ادركنا بأنه قد حانت لحظة الافتراق، كان قلبي يخفق بسرعة ،أما حلقي فكان جافا تماما،حاولت البحث عن كلمات معينة، لكن عبثا، كانت شبه ملتصقة بي ،وكنت أستطيع شم رائحتها التي ملأتني بالإثارة، استدرت محاولا الانصراف وانا أشعر بالعجز والألم، شعرت بأصابعها تمسك بكفي، التفت نحوها، سحبت يدي واجلستني لصق جذع الشجرة الضخم، أصبحنا كيانا واحدا الآن وثمة دفء غريب ،راح يغمر أجسادنا بالنشوة، رفعت يدي وتحسست بأصابعي ملامح وجهها المستدير،سرعان ما أغمضت عينيها،كان فمها مطبقا وانفاسها تتصاعد من أنفها، دنوت بشفاهي فمسست وجنتها مسا رقيقا،كانت رائحتها طيبة أشبه برائحة العشب البري، لم تكن لدي تلك الخبرة الكافية للغوص أكثر من ذلك، وحتى لو كنت خبيرا فأن خجلي كان يمنعني ويضع حدا فاصلا للتمادي أكثر من هذا ،اكتفيت بلثم جبينها، ومس وجنتيها مسا خفيفا فحسب، تعالى عن بعد أصوات نباح مختلط لثلة من الكلاب، استيقظت حواسي دفعة واحدة، ابتعدت بجسدي عنها، قد يكون أحد معارفها يجول في المكان، تذكرت بأنني قد تأخرت أيضا، رحت أتلفت في الظلام الدامس يمنة ويسرة،لاشىء، سكون مريب فقط،حدقت فيها، كانت شبه نائمة على الأرض وقد سقطت عباءتها،فكانت لها فراشا وغطاءا، راحت عينها تلمعان في ظلمة الليل، لم تكن تبالي بما حولها، ولم يعد يهمها الوقت ولا أي شئ آخر، كانت تئن وهي تتلوى مثل الأفعى، أدركت بأن الغريزة في داخلها قد راحت تزأر، لعنت كل شىء، هبطت بجسدي فوقها، ظل فمها مطبقا، أدركت بأنها لم تكن ماهرة في التقبيل ، اشتد عواء الكلاب، شعرت بأنها قد أصبحت قريبة الآن، انتابني برود عجيب، شعرت بأن جسدي الفائر قد بدأ يرتخي، احست هي بذلك فرفعت رأسها قليلا للأعلى، كان شعرها الأشقر قد راح يلمع في الظلام، بقي طعم الحامض حلو في فمي، جلست لكنها أحاطت خصري بذراعها، كانت دائخة تماما وترتجف!
همست :
-مابك، هل اصابك برد، هل أنت خائف!؟
(تطلعت مليا في وجهي، كانت الانفعالات رغم الظلام شبه الحالك، قد ارتسمت بصورة جلية وواضحة فيه )أضافت وهي تعصر يدي لأشاعة الدفء فيها :
-سأذهب لغرفتي، ليس فيها سوى امي والبنتين، أما أخي وزوجته فلهما غرفتهما الخاصة، عندما اطفأ النور واشعله فهذا معناه أن أمي ذهبت لغرفتها، سأتي عندها واصطحبك ،فقط دقائق، إبقَ هنا وانتظر، لاتتحرك فقط راقب.
انفلتت من قربي بجسدها الطري اللين، دون أن تنتظر جوابا مني أو تحدق في حتى! اختفت خلف الشجيرات ،التي تحجب الغرف المتفرقة والمبنية من الطين.بقيت جامدا في مكاني، كنت متوترا ومثارا تماما، سيطر الخوف فجأة على مشاعري، تذكرت أمي وضرورة عودتي بسرعة، آه تبا، ثمة دبيب لخطوات، ارهفت أذني جيدا، راحت أسناني تصطك وتصدر صوتا، حدقت في نور غرفتها، مازال مشتعلا،اللعنة!مابال اقدامي تسمرت بالأرض هكذا، لم أكن أقوى على رفعهما، كانتا ترتجفان من تحتي، انشغلت بخوفي، بعواء الكلاب اللعين الذي كان يبعد ويقترب، لم أشعر باليد ولمستها الرقيقة التي حطت على كتفي، ارتجفت مجفلا ،كاد قلبي أن يكف عن الحركة، كتمت ضحكتها، وقفت لصق جسدي وهي تقول :
-لا عليك، أمان، الخطأ ليس مني، البنتان في غرفة امي، لقد رقدتا هناك منذ غروب الشمس، تعال معي وحاذر قدميك، لاتخف،كلهم نائمون.
جرتني من يدي، رحت امشي خلفها وأنا أتلفت،كان حلقي قد جف تماما، وكنت أستطيع سماع نبضات قلبي السريعة العالية بوضوح تام. عندما غادرت غرفتها قبل حلول الفجر، كنت منهكا وخاويا تماما، تنفست الصعداء حينما أصبحت بعيدا عن البيت ذو الغرف الطينية،تحسست جبهتي، كانت باردة، رحت امشي متعثرا، وانا مغمض العينين، مازالت رائحة جسدها تملأ أنفاسي،أخذت أفكر بأمي، بقلقها وغضبها، بوعدي لها ،الذي لم أستطع الايفاء به، بنظرة شقيقاتي الخجولات لي، تبا لي، ما عساي أن اصنع الآن، وماذا لو كان ما حدث واحدا من الأحلام العديدة التي تراودني! لكن كيف!؟سحقا ليحدث ما يحدث! لكل شىء ثمن، ولابد من دفع ثمن الآهات والقبلات التي انغمست بها في النهاية، طيب، سأدفع الثمن وليكن مايكن! هذا مارددته مع نفسي قبل أن يطالعني شبح أمي الجاثم قرب الباب الداخلي. كانت متكأة ومستندة بظهرها للباب وهي شبه نائمة، جلست في مواجهتها ورحت ابحث عن يديها،وانا أكاد ابكي، كنت ارتجف من البرد والخجل والعار!لم تقل شيئا، فقط تنهدت وجذبت شعري حتى اصطدم رأسي برأسها، بقينا هكذا للحظات، كان بوسعي سماع صوت نشيجها، همست بصوت مبحوح :
-لاتصدر صوتا، شقيقاتك نائمات، اذهب للنوم، هيا حالا. احتضنت اصابعها، اشبعتهن تقبيلا ومسحت بهن على وجهي، قلت بصوت بالكاد يسمع :
-وانت يا أمي.
-اذهب، سأخلد بدوري للنوم بعد قليل.
تسللت مثل لص محترف، كنت أشعر بالخجل من شقيقاتي، حدقت في الظلام، كانت الغرف مغلقة، والسكون سائدا، التمست سريري، سحبت الغطاء وتمنيت ولأول مرة أن يطول رقادي لأجل غير مسمى. لا أعرف متى خلدت للنوم ولا كيف فعلت هذا، لكن ما حدث لاحقا، أنني وجدت نفسي افيق على هزة يد،ظننت نفسي احلم في البداية، ثم تخيلت أن هذه كف شقيقتي الصغرى، لكن حين تبينت الملامح التي كانت تحدق في بعتاب يشوبه شىء من الحنان الذائب،أدركت أنها أمي!اخفيت وجهي بذراعي، لكنها ازاحتها جانبا، قالت :
-والدك موجود هنا، أنه يعرف كل شىء، تعرف، لايمكن أن اخفي عنه شيئا كهذا، عليك ان تنهض، اغتسل واستبدل ثيابك، ستسافران اليوم ،وستسكن هناك، لدى بيت عمتك انه قريب من بغداد،هكذا أفضل لك ولنا.
استدارت امي منصرفة، وهي تجر قدميها جرا، لقد بات واضحا حجم الألم الذي تسبب به تصرفي الأحمق، قبل أن تغيب خارج الغرفة التفتت، ردت مسرعة ووقفت فوق رأسي، قبلتني ونحبت، لكنها سرعان ماسيطرت على صوتها، قالت :
-اطمئن لن يحدث شىء، لقد تفهم والدك الموقف، لن يؤنبك، وخالك تحدث معه أيضا، تعرف أنه شاب مثلك وقد تفهم الأمر واقنع والدك بأن هذا ممكن أن يحدث لأي شخص.بقيت احدق في سقف الغرفة، كنت اتمنى لو أن الأرض تنشق للحظة واحدة، فقط حتى تبتلعني فحسب!ودعت امي وشقيقاتي اللواتي لمعت عيونهن بالدمع، لم تجرأ شقيقتي الصغرى على اللحاق بي كعادتها كل مرة، كان منظر ابي صارما ومهيبا، لكني أخبرت امي وهي تقبلني عند الباب الخارجي بأني سأحضر هدايا مميزة كالعادة لكل شقيقاتي حال عودتي، كان أبي يسير بجانبي، لم نتحدث بالأمر، لكنه أحيانا كان يرمقني بطرف عينه، كنت أستطيع رؤية ذلك بوضوح، وخيل لي في بعض المرات أنه كان يبتسم ويهز رأسه،طوال الطريق وحتى وصولنا إلى دار عمتي ،كان أبي يعاملني بأحترام، لم نتطرق للموضوع لا من قريب ولا من بعيد، كانت البلدة التي تسكن بها عمتي قريبة إلى بغداد، حوالي ساعة بالسيارة، شعرت بأن هذا سيلائمني، لكني لم أنسى الشقراء طوال مدة سفري، كنت ابتسم لنفسي بغموض وانا أتخيل لحظاتنا معا واتنهد!المفاجأة التي حدثت ونحن نقترب من بيت عمتي، ليس في الضجة التي اثارها أطفالها وهم يتحلقون حول ابي، بل في باب الجيران ،التي انفرجت عن وجه انثوي مستدير كالقمر،كان هذا الوجه ذو الملامح الوسيمة قد استدار نحوي، راحت تحدق بي فبادلتها النظر وابتسمت رغما عني ،لا لشيء، وإنما لأنها كانت، شقراء!!!!
(تمت )
بقلم /رعد الإمارة /العراق
11/11/2019 الاثنين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق