السبت، 8 فبراير 2020

ج2 من قصة {{أوجاع في ذلك الزقاق}} بقلم القاص العراقي القدير الأستاذ{{رعد الإمارة}}

أوجاع في ذلك الزقاق /الجزء الثاني 

عدت قبل موعد الغداء بحوالي النصف ساعة، نظفنا أجسادنا بصورة جيدة حتى إنها راحت تلمع تحت وهج أشعة الشمس ،تركت رفاقي الآخرين خلفي يمزحون ويعبثون مع بعضهم البعض واسرعت الخطى صوب بيت جدتي،كان يجب الوفاء بالعهد الذي قطعته لجدتي ومن قبلها عمتي ذات الوجه المدور! لم تكن بنت الجيران ذات الضفيرة الشقراء موجودة عند الباب، عندما لاح ظلي في بداية الزقاق، فكرت بأن ذلك أفضل مع شعري النافر والمشوش. دفعت الباب بقدمي ،رحت أصفر بلحن اغنية (اهواك)لعبد الحليم حافظ، أعجبني اللحن فأخذت اعيده بفمي وأنا ادور حول نفسي، فاجأني صوت جدتي وهي تقول ،الله أكبر ،الله أكبر، تبا لي، جمدت في مكاني وابتلعت اللحن ،وضعت عمتي سبابتها أمام فمها الضاحك وهي تحذرني، قالت بهمس وهي تسحبني من ياقة قميصي :
-حذاري أن تصدر صوتا عندما تصلي أمي، إنها لحظات مقدسة تحب أن يعم السكون فيها، -قربت أنفها من رقبتي -عليك أن تستحم  أولا قبل تناول الغداء، هيا حبيبي إذهب بسرعة قبل أن تشمك امي، رائحتك قذرة. لكني نظفت نفسي جيدا هناك، هكذا همست لها وأنا أحاول الإفلات من قبضة يدها عبثا. كانت جدتي تداعب مسبحتها حين خرجت من الحمام، رفعت رأسها وقالت :
-هل نشفت رأسك جيدا، سرح شعرك وتعال هنا بقربي. قالت ذلك وهي تربت على السجادة براحتها، كدت أن اصطدم بعمتي التي كانت تحمل صينية الغداء لولا مهارتها، إذ ارتدت للخلف بسرعة،راحت تهز رأسها وهي تفسح لي مجالا للمرور، عدت سريعا، كان منظر افخاذ الدجاج فوق الرز قد جعلني أمر بالمشط مرور الكرام على شعري، وضعت جدتي حصة الأسد أمامي، طبقا كبيرا طافحا بالرز ،ثم دست إلى جانب الفخذ كبد الدجاج الذي اعشقه!. شعرت بثقل كبير في معدتي، وراح رأسي يدور، تمددت على الاريكة الخشبية ذات القماش الأبيض المطرز بالورود، أخذت عمتي وجدتي تحتسيان الشاي بصوت مسموع،  هززت رأسي علامة الرفض مرارا وتكرارا حين عرضتا علي احتساء البعض منه، سرعان ماتمكن مني سلطان النوم ،رويدا رويدا راحت عيناي تنغلقان،ومن بعيد كان يصلني كلام النسوة المتقطع والذي  كان يتخلله ضحك كثير، ياترى هل كانتا تضحكان مني!. لا أعرف كم مضى علي وانا غارق في غفوتي، كنت أحلم أو في سبيلي لذلك حين تناهى إلى أذني همس أصوات غريبة! قطعت جدتي مجرى الحديث الدائر بنوبة سعالها المعتاد الذي جعلني أتقلب، سمعت زوجة جارنا تهتف بلكنة بغدادية عذبة، إسم الله عليك دادة! اطبقت فمي شبه المفتوح، كان ثمة ذبابتين راحتا تتناوبان التحليق والهبوط على صفحة خدي وفمي، تبا!ليس هذا وقتكما، هكذا همست وأنا اصفع جبيني برفق حيث حطت إحداهما. كانت عمتي تتحدث ضاحكة برقة مع شخص آخر خيل لي بأني أعرفه، تحدثتا حول تفاصيل الثوب المراد خياطته،فتحت عيني شيئا فشيئا وأنا أشد ما أكون حذرا، آه، هذا الصوت! اصطدمت عيناي شبه المنفرجتان بملامح ضبابية أولا، نفخت بزاوية فمي، طارت إحدى الذبابتين، خرق أذني صوت نسائي يضحك، فتحت عيني على سعتهما هذه المرة، كانت تجلس في مواجهتي وهي تحاول إخفاء ضحكتها بأصابعها، لم ترمش بل واصلت التحديق في قبل أن تدير وجهها صوب عمتي وتواصل الحديث!أغمضت عيني مرة أخرى، كان قلبي قد ازداد خفقانه حتى كاد أن يخترق صدري، فكرت بأن الشقراء ذات الضفيرة وامها لابد قد حضرتا عندما كنت نائما، شعرت بالغضب من عمتي، كدت أن أشير لها بأصبعي الذي كان يطارد الذبابتين، لماذا لم تأخذيهن لغرفتك، أليست ماكينتك اللعينة هناك! لكني اكتفيت بوضع اصابعي كلها على وجهي هذه المرة. عندما تظاهرت بالأستيقاظ فيما بعد، كانت الضيفتان قد رحلتا، لكن عطرهما الحلو ظل يحلق في أرجاء الغرفة،قالت عمتي :
-ما اخبار الذباب! كادت بنت الجيران أن تختنق من شدة الضحك، آه منك، كنت مضحكا وانت تنفخ بزاوية فمك هكذا.  راحت عمتي تعيد تصوير ماحدث بفمها، كانت ممثلة بارعة، حتى أنها جعلتني أكاد أشرق بضحكتي، أما جدتي التي كانت تتمايل في جلستها من شدة النعاس فأكتفت بسعلة قصيرة فحسب ثم عادت تغلق عيناها.  ساد البيت هدوء تام بعد أن غفت جدتي واستلقت على وسادتها القطنية، أما عمتي فقد لاذت هي الأخرى بغرفتها، أخرجت هذه المرة رواية لكن لأجاثا كريستي، رحت التهم صفحاتها الواحدة بعد الأخرى، لكني لسبب لا أفهمه وجدت الكتاب يقع من يدي ثم اغرق في سبات تخللته أحلام متشابكة عن سكاكين وأبواب تفتح وشعر أشقر ودبيب أقدام فوق سطح الجيران، سحقا! كم يبدو الحلم هذا حقيقي!! عندما خرجت من غرفة الضيوف، كانت جدتي لاتزال تواصل شخيرها المتقطع، حدقت في باب غرفة عمتي، مشيت بخطوات بدت ثقيلة، خيل لي بأن ثمة نشيج كان ينبعث من خلف الباب المغلق! آه، عمتي الجميلة المسكينة، حتما هي غارقة في احزانها وتندب كالعادة حظها العاثر، لطالما سمعت جدتي تقول إن النحس يلازمها، وإلا كيف تدهس سيارة مسرعة خطيبها الأول بالرغم من أنه كان يمشي على الرصيف! أما الثاني ذو الأربعون عاما فلم تمهله السكتة القلبية التي هبطت عليه فجأة،لقد مات بعد ثلاثة أيام فقط من عقد الخطوبة! حدقت في باب السطح المغلق، هززت كتفي ورحت ارتقي درجات السلم قفزا كالمعتاد. (يتبع /انتهى الجزء الثاني )

بقلم /رعد الإمارة /العراق 
8/2/2020

ليست هناك تعليقات: