الجمعة، 15 أبريل 2022

قصة قصيرة تحت عنوان{{على تخوم البانيو}} بقلم الكاتب القاصّ اللبناني القدير الأستاذ {{ربيع دهام}}


 ( قصة قصيرة / على تخوم البانيو / ربيع دهام/لبنان)


صرختُ بمجموعةٍ من اللصوص صادفتهم وهم يسرقون بيتي للمرة السابعة :  " لقد طفح الكيل".
أجالوا بصرهم أرجاء البيت، قبل أن تعود نظراتهم وتحط على مدرج ناظري :
" نعرف بيتك أكثر منك. لقد فتّشنا ولم نر أي كيل".
اقتربتُ منهم وسألتهم موبِّخاً : " ولما لا تسرقون بيت جاري؟ لماذا بيتي فقط؟".
"نحن نختار مكان السرقة"، أجابوني.
وبختهم محتجاً : " ذاك كيل بمكيالين".
عادوا وأجالوا بصرهم أرجاء البيت، ولما لم يروا شيئاً أنّبوني :
" لم نرَ كيلاً واحداً كي نرى اثنين".
جلستُ على الكنبة غاضباً : " ولِما لم تهاجموا بيت إم محمود؟ جارتنا اللئيمة.  لديها في البيت أشياء ثمينة".
عاتبوني : " ألم نقل لك نحنُ نختار مكان السرقة؟".
انتفضتُ عن الكنبة ووثبتُ كالغضنفر ... على السريرِ. 
وهناك، فوق الفراش الناعم الشاسع المريح، جلستُ شامخاً ، 
ثم صرختُ بهم :
" ستنتقم منكم العدالة الدولية".
أجابني أحد اللصوص. ذاك الذي كان يشكُّ في جيبه المزهريّة : 
" إرفع شكواك لمجلس الأمن، وللمنظمات الدولية".
بسرعة الحُسامِ، وبطش الكلام، قفزتُ عن السريرِ وانقضضتُ على ... معجون الأسنان الذي يتسكّع ملولاً في الحمّام. 
عصرتُهُ بيديّ حتى خنقته. حتى صار يئن بين أصابعي مثل اليائسين. 
حتى راح يلاطف كفّي ويقبّلها. 
لكني، من شدّةِ حنقي، لم أتراجع. 
لقّمتُ الفرشاة بالمعجون، وحملتُها من مقبضها المخيفِ، ثم هززتها مثل بيرق النصر، وشَهَرتها بوجوهم مهدداً. 
ثم ، وبحركة مباغتة إلتفافية مني، غرزتُ شعيراتها المسنّنة بلثّني وفوق أسناني.
وصحتُ، ورغوةُ الغضبِ تتناثر كحمم البركان من فمي :
" أنظروا إلى لون معجوني الأزرق هذا. ألا يذكّركم بشعار الأمم المتحدة؟
 غداً .. غداً سأقدم شكواي لمجلس الأمن. الأمم المتحدة ستحاسبكم. وستنال منكم أيها اللصوص".
لم يقولوا شيئاً.
زجرتهم : " إذا لا الأمم المتحدة تخيفكم،  ولا معجوني الأزرق، سأتصل بالعرافة ليلى عبد اللطيف لترسل لكم الجن الأزرق".
لم يردوا.
لكن أحدهم. ذاك الذي كان يُفرغ قجّة إبني من النقود. نقود جمعتها له على مر السنين. رمقني بكل استخفاف وقال، بعد أن تثاءب طويلاً من الخوف:  
" أولاً. إمسح الرغوة عن فمك لنعرف ماذا تحكي. 
وثانياً  أبشِر. سنترك لك القجّة الفارغة. ضَع بها بعض النقود كي نأتي لسرقتك في المرة القادمة".
لم أحتمل كلامه التهكّمي هذا. فقفزتُ كإبن بطوطة، من الحمّام إلى داخل شاشة التلفاز. 
تمنطقتُ بربطة عنقٍ أنيقة قلّ نظيرها في البلد. دوزنتُ صوتي على مقام الحجاز. ثم عدّلته للرست. ورحتُ أوبخّهم فرداً فرداً. 
ومثل البحرِ العاصف هدرتُ في صدورهم : 
" لكن جاري أبو ملحم لدى إبنته قجّة أكبر من تلك التي لإبني. لم لا تذهبوا إلى هناك وتستخرجوا من لبّها ما يطيب لكم من العملات؟".
أجابوني بصوتٍ واحدٍ، وكأنهم يريدون دفعي مرغماً إلى الإستسلام : 
" للمرة الثالثة نقول لك نحن نختار مكان السرقة".
وهنا، وفي هذه اللحظة بالذات، وجدتني مضطراً أن أهمس في داخلي : 
" كفى!".
ثم حضّرتُ نفسي لقصفهم. لتدميرهم. لسحقهم. لإبادتهم بشِعرٍ عاموديٍّ 
لا مثيل له. 
قصيدة ملحمية، فشل المتنبي وأمرؤ القيس في نظمِها. كل بيتٍ فيها موزونٌ على مقياس ريختر. أبيات ستزلزل الأرضَ مِن تحت أقدامهم.
ولما انبريت وتنحنحتُ لتلاوة القصيدة اللولبية، وشربتُ من كوب الماء الزجاجي أمامي، تماشياً مع بروتوكول الإلقاء، انقضّت عليّ دعاية فجائية لبوتوكس نسائي، قد تم طرحه حديثاً في الأسواق، فأسكتتني.
أسكتتني ولو لحين.
وصبرتُ صبر المؤمنين الواثقين المستشرفين.
 ولمّا لملمتِ الدعايةُ حقيبتها السيليكونية، وآذنت بالرحيل، قفز التيار الكهربائي إلى داخل حقيبتها ورحل معها.
واأسفاه.ماذا أفعل؟ 
هي مؤامرة حبكها الإستعمار مع اللصوص علي. 
أأترك الساحة لهم؟ أأختفي من المعركة وأنا فارسها؟
لا وألف لا.
لن أيأس. لن أستسلم. لن أركع. لن أسلّم عنقي للريح، ومذلّتي للتاريخ.
كسرتُ شاشة التلفاز وانبثقتُ من موجاتها الحرارية مثل طائر فينيق.
ومن هناك، طرتُ إلى البانيو. فتحتُ الصنبور، وملأت جوفه السيراميكي بالغضب الساطع، وقلتُ للصوص مزمجراً : 
" إلى المعركةِ  يا لصوص هلّموا ! ". 
وبخطة حربية عبقرية مني ، لبستُ فوّاشات النجاة وانسللتُ إلى ما دون سطح الماء مغرغراً :  " لقد طفح الكيل".
وطارت درونات الفقاعات المائية، التي بها الكلمات، حتى وصلت  لما فوق رؤوسهم. 
وقبل قصفهم بالقنابل الغازية، المحملة بالأبجدية ، عاد التيار الكهربائي.
فاشتغل المكيف، فلفح الهواء البارد الفقاعات، فأصابها بتشّات البرد الموجعة. فانفجرت في عليائها قبل الوصول إليهم.
صرخوا بوجهي مقهقين: " لقد طفح البانيو وليس الكيل".
لم أحتمل إجابتهم الساخرة تلك. 
ركّبتُ على ظهري زعنفة مرعبة، وخرجتُ لهم كالكرشِ الفتّاكِ من بحر البانيو العظيم. 
" أنا قادمٌ انتظروني"، هدّدتهم.
ولما صرتُ خارج الماء، مددتُ يدي نحو المنشفة، كي لا يلفحني البرد، 
لكني لم أجدها.
ثم مددتها نحو السيشوار. أيضاً لم أجده.
حدّقتُ في سحنتي بالمرآة لأرى إن كان شعري منكوشاً أو لا. 
لم تكن المرآة هناك.
ما هذا؟ ماذا حصل؟
ركلتُ باب الحمّام بقدمي وخرجتُ  لمهاجمتهم.
نعم. لمهاجمتهم من دون رحمة. 
لأن زوجتي رحمة  كانت في زيارة لصديقتها نرفين.
وقبل قرع طبول الحرب، صرخت باللصوص لآخر مرة متوعداً : 
" إلى المعركة يا لصوص هلّموا ! ". 
لكن اللصوص الجبناء لم يردّوا. 
وما أجابني، في تلك اللحظة، إلا الصدى : "هلّموا ...هلمّوا ... هلّموا".
ولما فتشتُ عليهم أرجاء البيت، لم أجدهم في أي مكان.
ليس هم فقط. بل محتويات البيت كله لم تكن هناك.
لا الكنبة ولا السرير. 
لا التلفاز ولا الخزائن.
لا الصحون والملاعق. ولا السكاكين.
ولا ملاقط الغسيل. حتى وجبة أسنان جدتي التي نستها لم تكن في البيت.
 حتى حبال الغسيل قد أخذوها.
حتى حبال الصوتِ قد سحبوها.
لم يتبقّ في البيت إلا لوحةً كنت قد علّقتها  منذ قدومنا إلى هنا، 
فوق باب المدخل.
لوحة مكتوب عليها كلمة "سيادة".
 يبدو أنهم لم ينتبهوا حتى لوجودها.
صفنتُ في نفسي. كوّرتُ كتفيّ. كدتُ أن أضرب الباب بقبضتي.
لكن قبل أن يصيب الغضب الساطع الباب، تداركتُ. 
فجأة راحتْ تنفرجُ أساريري. عاد العنفوانُ المضمّخ باللازوردي إلى صدري.
وعلا إلى ما فوق السحاب جبيني. أخفضته قليلاً كي لا يضرب بطبقة الأوزون فتحرقه.
وقلتُ، والنشوة أضاءت بالوهجِ عيوني: 
" الآن، وبعد أن سرقوا كل ما في بيتي، سيضطرون لسرقة بيت جارتي أم نايفة".
ضحكتُ ضحكة النصر المؤزر  وهمستُ: 
" أخيراً قد جاء يومكِ أيتها البومة ".

ليست هناك تعليقات: