جيرانُ الرِّضا.
----------------
بقلم الأديبة : عبير محمود أَبو عيد.
فِلَسطين - القُدس - وادِ الجوز.
- أُمّي، اليَومَ هُوَ حَفلُ زَفافِ أُختي ماجِدَةُ. مَنْ هذِهِ الّتي تَتَصَوَّرُ مَعَ أُختي وَزَوجِها؟ وَمَنْ هَؤُلاءِ الصَّبايا بِجانِبِها؟ وَمَنْ هذا الشَّخصُ بِجانِبِ زَوجِ أُختي؟
- يا بنَتي يا عَبيرُ، هذِهِ السَّيِّدَةُ رِفقَةُ أُمُّ نَبيلٍ الكُردِ، وَهِيَ أَرمَلَةٌ. إِنَّها زَوجَةُ خالِ زَوجِ أُختِكِ، وَهذا نَبيلُ : ابنُها الوَحيدُ، وَهَؤُلاءِ أَخَواتُهُ : ناديا وَنَبيهَةُ وَناريمانُ وَنِسرينُ وَمَيساءُ.
- يا اللهَ يا أُمّي كَمْ أَحبَبتُ هذِهِ السَّيِّدَةَ الأَنيقَةَ وَبَناتِها الجَميلاتِ!
وَفي يَومٍ مِنَ الأَيّامِ، وَكانَ يَومُ خَميسٍ، وَكُنتُ في الصَّفِّ الخامِسِ الأَساسِيِّ، قالَتْ لي أُمّي بَعدَ عَودَتي مِنَ المَدرَسَةِ :
- عَبيرُ، يا بنتي الغالِيَةَ، الرَّجاءُ أَنْ تُراجِعي دُروسَكِ اليَومَ وَتَكتُبي جَميعَ وَظائِفَكِ.
- لِماذا يا أُمّي؟ أَنا أُريدُ أَنْ أَرتاحَ، وَغَدًا الجُمُعَةُ هُوَ يَومُ الإِجازَةِ وَأَستَطيعُ فيهِ الدِّراسَةَ وَحَلَّ وَظائِفي كُلَّها بِسُهولَةٍ.
- وَلَكِنْ نَحنُ سَنَذهَبُ غَدًا بَعدَ الصَّلاةِ إِلى مَنزِلِ جارَتِنا الغالِيَةِ أُمِّ نَبيلٍ، فَنَحنُ مَدعُوونَ عَلى مائِدَةِ الغَداءِ عِندَها، وَسَتَكونُ أُختُكِ وَزَوجُها هُناكَ.
- أَنا مَسرورَةٌ جِدًّا يا أُمّي، وَسَأَعمَلُ بِما تَقولينَ. لَقَدْ سَمِعتُ أَنَّ الجَدَّةَ أُمَّ نَبيلِ أَرمَلَةٌ مَنذُ زَمَنٍ بَعيدٍ. يَقولونَ إِنَّ لَدَيها بُستانٌ جَميلٌ جِدًّا وَواسِعٌ وَفيهِ أَشجارُ اللَّوزِ وَالأَسكي دُنيا وَالتُّفاحِ وَالعِنَبِ.
وَفي صَبيحَةِ يَومِ الجُمُعَةِ، أَنهَتْ أُمّي أَعمالَ البَيتِ بِسُرعَةٍ بَعدَ أَنْ تَناوَلنا جَميعًا طَعامَ الإِفطارِ. ذَهَبَ والِدي لِلصَّلاةِ في المَسجِدِ الأَقصى وَعادَ وَرَآنا نَنتَظِرُهُ عَلى أَحرِ مِنَ الجَمرِ. وَذَهَبنا وَقَدْ حَمَلَ والِدي ما لَذَّ وَطابَ مِنَ الفاكِهَةِ وَالحَلَوِيّاتِ. كَما اشتَرَتْ أُمّي لِلجَدَّةِ اُمِّ نَبيلٍ ساعَةَ حائِطٍ كَبيرَةٍ كَهَدِيَّةٍ لِدُخولِنا لِبَيتِها لِلمَرَّةِ الأُولى.
وَاستَقبَلَتنا الجَدَّةُ أُمُّ نَبيلٍ وَالابتِسامَةُ تَعلو وَجهَها، وَكانَتْ مائِدَتُها حافِلَةً بِالطَّعامِ الشَّهِيِّ وَكُلُّهُ مِنْ صُنعِ يَدِها. وَأَذكُرُ أَنَّني كُنتُ أَلعَبُ في البُستانِ وَأَنا فَرِحَةٌ كَثيرًا. وَبَعدَ الغَداءِ، تَناوَلنا الشّايَ الأَخضَرَ في وَسَطِ البُستانِ. وَقَدْ أَحضَرَ ابنُها نَبيلٌ صَحنًا فيهِ مِنْ فاكِهَةِ البُستانِ الكَبيرِ.
وَتَوالَتِ الزَّياراتُ بَينَ عائِلَتي وَعائِلَةِ الجَدَّةِ أُمِّ نَبيلٍ. وَتَزَوَّجت بَناتُها ما عَدا ناديةُ، أَمّا فَرحَتُها، فَكانَتْ كَبيرَةً بِزِواجِ ابنِها نَبيلٍ وَقَدْ أَنجَبَ وَلَدينِ وَابنَتَينِ : مُنى وَمُحَمَّدٌ (تَوأَمانِ) وَمَها وَمَحمودٌ.
وَلِأَنَّ بَيتَ الجَدَّةِ صَغيرٌ، فَقَدْ قَرَّرَ نَبيلٌ أَنْ يَبنِيَ بَيتًا لِعائِلَتِهِ مُلاصِقًا لِبَيتِ والِدَتِهِ. فَشَرَعَ في بِنائِهِ وَأَثَّثَهُ بِالأَثاثِ اللازِمِ. وَلَكِنَّهُ فوجِيءَ بِقَرارٍ مِنَ المَحكَمَةِ يَقضي بِإِغلاقِ البَيتِ وَتَسليمِ المِفتاحِ لِلحُكومَةِ. وَقَدْ عَزَّ عَلى نَبيلٍ بِناءُ بَيتِهِ وَعَدَمُ السَّكَنِ فيهِ. كانَ الأَمرُ مِنَ المَحكَمَةِ بِأَنَّ البَيتَ قَدْ بُنِيَ دونَ إِصدارِ تَرخيصٍ بِذلِكَ. طَلَبَ نَبيلٌ مِنَ المَحكَمَةِ أَنْ يَقومَ بِهَدمِ البَيتِ بِنَفسِهِ، وَلَكِنْ كانَتِ الأَخيرَةُ تُماطِلُ حَتّى بِقَرارِ الهَدمِ. وَبَعدَ تِسعِ سَنَواتٍ، فوجئَ نَبيلٌ بِاستيلاءِ الأَغرابِ عَلى بَيتِهِ، بَعدَ أَن رَموا بِجَميعِ الأَثاثِ في الخارِجِ. وَلَقَدْ حاوَلَ نَبيلٌ وَوالِدَتُهُ التَّصَدّي لِلأَغرابِ وَلِلأَعداءِ، لكِنْ دونَ جَدوى. وَاستَولى الأَعداءُ عَلى بَيتِ نَبيلٍ، وَأَقاموا فيهِ يُعَربِدونَ وَيَسكَرونَ وَيُخيفونَ نَبيلَ وَعائِلَتَهُ بِالكِلابِ الّتي عَضَّتْ نَبيلَ أَكثَرَ مِنْ مَرَّةٍ.
وَحاوَلَتِ الجَدَّةُ أُمُّ نَبيلٍ بِكُلِّ ما أُوتِيَتْ مِنْ عَزيمَةٍ صَلبَةٍ وَإِرادَةٍ قَوِيَّةٍ التَّصدّي لِلأَغرابِ، وَذلِكَ عَنْ طَريقِ المَحاكِمِ، لَكِنْ دونَ جَدوى أَيضًا. وَتُوُفِّيَتْ ابنَةُ السَّيِّدَةِ رِفقَةِ، مَيساءُ، مِنْ مَرَضِ عُضالٍ. وَتَبِعَتها الابنَةُ ناديا المُصابَةُ بِالقَلبِ. ثُمَّ تُوُفِّيَتْ أَيقونَةُ الصَّبرِ الجَدَّةُ أُمُّ نَبيلٍ، وَلَمْ تَرَ أَو تَدخُلَ بَيتَ ابنِها نَبيلٍ. وَقَدِ استَولى بَعدَ ذلِكَ غَريبٌ واحِدٌ عَلى البَيتِ وَظَلَّ فيهِ لِوَحدِهِ.
ثُمَّ لِتَكتَمِلَ مَسرَحيَّةُ آلِ الكُردِ المليودراما، جاءَ الأَمرُ بِإِخلاءِ السَّيِّدَةِ رِفقَةِ الكُردِ مَعَ عائِلَتِها مِنْ بَيتِها الّذي تِسكُنُ فيهِ، وَذلِكَ قَبلَ وَفاتِها. لَقَدْ جاءَ الأَمرُ لِأَربَعِ عائِلاتٍ بِالإِخلاءِ، ثُمَّ تَطَوَّرَ الأَمرُ لِثَماني عائِلاتٍ أُخرَياتٍ، أَيْ أَصبَحَ كُلُّ الحَيِّ مُهَدَّدٌ بِالإِخلاءِ. وَفي سَنَةِ 2009م.، استَولى الأَعداءُ وَالغُرَباءُ عَلى مَنازِلَ عائِلَتَينِ في الحَيِّ هًما : عائِلَةُ الغاوي وَعائِلَةُ حَنّونٍ، وَسَكَنَتْ جَميعُ العائِلاتِ المَنكوبَةِ في العَراءِ وَفي الخِيامِ وَتَحتَ المَطَرِ وَالبَردِ القارِسِ. أَيُّ نَكبَةٍ نَعيشُها نَحنُ؟؟؟
وَكَبُرَتِ المُناضِلَةُ مُنى نَبيلُ الكُردِ وَأَخوها التَوأَمُ مُحَمَّدٌ، وَقَدْ شاهَدا الظُلمَ مُنذُ نُعومَةِ أَظفارِهِما. دَرَسَتْ مُنى مادَةَ الإِعلامِ في جامِعَةِ بيرَ زَيتٍ، وَانبَرَتْ كَالأَسَدِ في عَرينِهِ تُدافِعُ عَنْ حَيٍّ بِأَكمَلِهِ، وَقَدْ تَشَبَثَتْ بِقُوَّةٍ مِنَ الإِيمانِ أَكبَرَ مِنَ العالَمِ بِأَسرِهِ. الحَيُّ لَيسَ بِحاجَةٍ إِلى المالِ، وَلَكِنَّهُ بِحاجَةٍ إِلى دَعمٍ مِنَ العالَمِ بِأَكمَلِهِ، فَهُمْ أَصحابُ الحَقِّ وَهُمْ أَصحابُ الدّارِ. وَكانَ الشّابُ مُرادُ عِطِيَّه وَوالِدَتُهُ السَّيِّدة نُهى، بِالإِضافَةِ إِلى عائِلاتِ الحَيِّ، قَدْ تَعَرَّضوا لِلتَّنكيلِ وَالإِعتِداءِ عَلَيهِمْ أَكثَرَ مِنْ مَرَّةٍ، سَواءٌ مِنَ الأَغرابِ أَو مِنَ الأَعداءِ. وَلَكِنْ كُلُّ هذا ما زادَهُمْ إِلّا صُمودًا وَثَباتًا بِحَيِّهِم وَبِأَرضِهِم الّتي وُلِدوا وَتَرَعرَعوا فيها.
وَانبَرَتْ جَميلَةُ فِلَسطينَ الإِعلامِيَّةُ كريستينُ ريناوي، وَما زالَتْ، تَنقُلُ لِلعالَمٍ بِأَسرِهِ ما يَجري في حَيِّ الشيخِ جَرّاحٍ. وَبِالذّاتِ في شارِعِ عُثمانَ بنِ عَفانَ، مِنِ انتِهاكاتٍ لِحُرِّيَّةِ أَفرادِ الحَيِّ هُناكَ. مَمنوعٌ أَنْ تَرسُمَ عَلى جِدارِ بَيتِكَ، وَمَمنوعٌ أَنْ يَلعَبَ الأَطفالُ بِالطّائِرَةِ الوَرَقِيَّةِ، وَمَمنوعٌ أَنْ تُمسِكَ بِريشَةِ الأَلوانِ لِتُعَبِّرَ فيها عَنْ حُرِّيَتِكَ. "كُلُّ الجِدارِ هُوَ مُلكٌ لِلأَعداءِ" : هذا هُوَ قَرارُهُمُ الأَخيرُ. مَمنوعٌ لِلقَريبِ في العيدِ أَوْ أَيَّةِ مُناسَبَةٍ أُخرى أَنْ يأْتِيَ لِزِيارَةِ أَقارِبِهِ في الحَيِّ. وَإِذا خَرَجَ مُواطِنٌ مِنَ الحَيِّ، فَهُوَ يَتَعَرَّضُ لِلسُّؤالِ، وَيَجِبُ أَنْ يُبرِزَ الهَوِيَّةَ. باتَ أَهالي الحَيِّ يَعيشونَ في سِجنٍ كَبيرٍ فَرَضَهُ العَدُوُّ عَلَيهِمْ. وَهذا السِّجنُ لَمْ وَلَنْ يَستَمِرَّ، يَرَونَهُ بَعيدًا وَنَراهُ قَريبًا.
وَما زالَ السُؤالُ يَطرَحُ نَفسَهُ : هَلْ نَشاهِدُ نَكبَةَ عامِ 1948م. تِعودُ مِنْ جَديدٍ؟؟؟ وَهَلْ هَناكَ تَغريبَةٌ ثانِيَةٌ لِعائِلاتِ هذا الحَيِّ الجَميلِ؟؟؟؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق