"عبق الغياب"
-كم نفضتُ عن كتفيَّ غبار الطريق،
ولم تزل في قلبي
رعشةُ خطى لم تكتمل،
ولا وجهٌ يلوّح خلف الزوايا
إلا وكان يشبهني.
حملتُ في حقائبي
شروخَ أغنيةٍ سقطتْ
من حنجرةِ المساء،
ومنديلَ أمٍّ
بلّله المطرُ يوم ودّعتني
دون أن تغلق النافذة.
أشمُّ الريح،
فتفوح المدن القديمة
من شقوق الروح،
وتمتدّ أصوات الغياب
كسربِ طيورٍ
نسيت وجهتها،
لكنّها تحفظُ
ملحَ البحر في الذاكرة.
قال لي الغروبُ:
أنتَ ظلُّك أكثر منك،
وأنتَ ترحلُ
لكن لا تصل.
أما الحنين،
فهو صديقي الأعمى
الذي يدلّني
على الدروب المقطوعة
بضحكةٍ ناعمة،
ويتركني عند العتبات.
لم أعد أبحث عن الطريق،
فالطريقُ، كما الوقت،
يتّسع حين أضيع فيه.
كلّ جهةٍ هي احتمال،
وكلّ وقوفٍ
هو بداية لرحيلٍ آخر.
أدركتُ – بعد أن ثقلت خطواتي –
أننا لا نحمل الحقائب،
بل تحملنا الأوهام التي نضع فيها أسماءنا،
وأسماء الذين مرّوا
كضوءٍ على سطح ماء.
الحنين؟
هو محاولة عبثيّة لفهم ما لا يُفهم،
هو صوتُ الحياة
حين تتذكّر أننا لا نعود
إلا وهمًا.
كل شيءٍ يعبر،
حتى اللحظات التي حسبناها خالدة،
كل ضوءٍ له موعدُ أفول،
وكلّ بداية
مسمومة بنهايةٍ لا تشفق.
الحياةُ
ليست ما نعيشه،
بل ما لا نقدر على قوله عنها.
هي مسرحٌ
نعرف نهايته،
لكننا نصرّ على التمثيل
بكامل الشعور.
قلتُ للريح:
خذيني حيث لا أعرف نفسي،
حيث لا أحتاجُ معنى،
لأنني سئمتُ البحث
في كتابٍ لا فهرس له.
في كلّ مرآةٍ
أراني كأنّي لستُ أنا،
وجهٌ تعلّق بزمنٍ سقط من الذاكرة،
وابتسامةٌ
تحاول إقناع الألم أنها صدفة.
نحن لا نُكسر فجأة،
بل نتفتّت على مهل،
كالصخر تحت أنامل الموج،
لا أحد يراك تتآكل،
لكنّك حين تنهار،
يقولون: كان قويًا.
الزمنُ لا يمرّ،
نحن من ننزلق داخله،
قطرةً فقطرة،
ونكتب أعمارنا
بمدادٍ لا يُرى
إلا حين يجفّ.
والمعنى؟
هو تلك المسافة
بين ما نريده،
وما نقدر عليه.
ذلك الفراغ
الذي نلوّنه بالكلمات
خوفًا من صمته.
أيها العابر في ظلك،
لا تبحث عن اليقين،
فالأسئلة أنقى من الأجوبة،
وكل حقيقةٍ
هي قناعٌ لارتباكٍ أعمق.
حتى الموت،
ليس نهاية،
بل خيطٌ آخر
في نسيجٍ لم نرَ وجهه الكامل بعد.
ها أنا،
أجلس في ظلّ المعنى،
لا أنتظر شيئًا،
ولا أهرب من شيء.
تعلمتُ أن الطريق لا يوصل،
بل يُحوِّلنا،
وأن كلّ وداعٍ
هو مرآةٌ أخرى للبقاء.
الحنين؟
أهدأُ من أن يُبكينا الآن،
صار صديقًا عجوزًا
يحكي،
ولا نُصدّق كلّ الحكاية.
وفي النهاية،
كلّ ما ظننّاه عابرًا
ترك أثرًا،
وكلّ ما تشبّثنا به
تسرّب مثل ماءٍ
من بين الأصابع.
الحياة؟
طيفٌ يُضيء لحظةً
في وعينا،
ثم يمضي.
ونحن؟
مجرد شهود
على هذا الوميض.
صفوح صادق-فلسطين
١٧-٦-٢٠٢٥.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق