جراح أهملتها السجلات
بقلم: ماهر اللطيف 🇹🇳
طُرِق الباب طرقًا شديدًا اخترق خشبه المهترئ، وتسلّل صوت غليظ يصيح من خلفه:
"افتح الباب حالًا… افتح وإلا كسرناه!"
تعالى الضجيج في الخارج، وارتفعت الأصوات من كل حدب، فتكسر صمتُ الداخل وهدوؤه.
وفجأة، خُلع الباب بعنف همجي. اقتحموا المنزل كإعصار، يبعثرون محتوياته بيدٍ فيها الكثير من الشماتة، يبحثون في كل زاوية عن أي كائن حي، قبل أن يغادروا تاركين المكان نهبًا للمتطفلين واللصوص يفعلون به ما يشاؤون.
في تلك اللحظات كان الشيخ صابر يرقد في قسم القلب والشرايين بالمشفى، ينتظر دوره لإجراء عملية قلب مفتوح، استعدادًا للاحتفال بعيد ميلاده التسعين بعد أيام مع أحبابه وأصحابه الذين يحبونه حبا جما لما يتصف به من صفات جميلة ندرت في هذا الوقت . وكانت الحاجة سالمة إلى جواره، تغيّر له ملابسه وتساعده في شؤونه اليومية.
أما فرج، ابنهما الوحيد، فكان يؤمّ الناس لصلاة العصر في أحد جوامع مرسيليا حيث يقيم مع زوجته الفرنسية وأبنائه الثلاثة. كان يذكر الله كثيرًا، يرجوه شفاء أبيه وتخفيف بلائه وبلاء أمه وزوجته التي تصغره بسنتين.
وفجأة، أطلق الشيخ صابر صيحة قوية فقد على إثرها وعيه، فاستنفرت أطقم القسم، ونُقل على جناح السرعة إلى قاعة العمليات.
انفجرت الحاجة سالمة باكية. حاولت الاتصال بفرج دون جدوى. القلق ينهشها، والخوف يزداد، والوقت يمرّ بطيئًا وهي لا تعلم ما يجري خلف ذلك الباب المُحكم.
جلست تستحضر سنواتها معه منذ الطفولة؛ فهو ابن حيّها، تربّيا معًا في زمن كانت فيه العلاقات الاجتماعية تُكرّس القيم والتقاليد السمحة. تذكرت زواجهما، سنوات الانتظار قبل إنجاب فرج، لحظات الفرح والانكسار… كل شيء مرّ أمام عينيها بينما زوجها يصارع داخل غرفة العمليات.
خرج فرج من الجامع وهو يشعر بضيق مفاجئ، اتصل بزوجته ثم بأمه. وحين سمع الخبر، اقشعرّ جسده وتسمّر في مكانه، ذكر الله وتابع ما جري لحظة بلحظة.
بعد قليل، وصلت فرقة أمنية مدججة بالسلاح، طوّقت المشفى وأغلقت مداخله. دخل كبيرهم القسم منزوعًا من زيه الرسمي، وتقدم نحو الحاجة سالمة، جذبها من كتفها بعنف وصاح:
— أين زوجك الإرهابي يا عجوز؟
— (مرتبكة) من أنت؟ ولماذا تبحث عنه؟ أي إرهابي هذا يا بني؟
— (ساخرًا) جئت لألتقط معه صورة للذكرى!
— (بهدوء لم يُعجبه) الله يهديك يا ولدي…
لم تكد تكمل حديثها حتى خرج فريق العمليات بوجوه شاحبة مرهقة، وطلبوا منها انتظار الطبيب الجراح الذي سيخبرها بما حدث، ثم اختفوا،وهو مازاد من خوفها وتوترها.
خرج الطبيب بعد مدة، متصببًا عرقًا، اتجه نحوها وعلى وجهه مزيج من الإرهاق والطمأنينة، وقال:
"قمنا بفضل الله بكل ما يلزم. العملية كانت استعجالية وصعبة، واجهنا أثناءها ارتفاعًا في ضغط دمه فسارعنا إلى السيطرة عليه… الآن هو تحت تأثير التخدير، وسننقله إلى العناية المركزة. حمداً لله على سلامته."
في تلك اللحظة، تراجع كبير الأمنيين قليلًا، وشرع في “تصحيح إجراءاته”. فرض حراسة مشددة على غرفة الشيخ صابر، في انتظار ما ستسفر عنه التحقيقات. عادت سالمة إلى منزلها لتجده في حالة يُرثى لها، فازداد همّها همًّا، ولم تجرؤ على المبيت هناك، فعادت إلى المشفى لتقضي ليلتها في بهو الاستقبال، في انتظار عودة فرج بأقصى سرعة مع حلول أول طائرة من فرنسا.
وبعد أيام، حين استفاق الشيخ، كان الجميع بجواره… بمن فيهم كبير الأمن الذي دخل حاملاً باقة ورد، يعتذر عما سببه لأفراد العائلة من رعب ووجع. برّر فعلته بأن برقيةً وصلت تطلب إيقاف الإرهابي صابر صالح الموجود في المدينة، لكنهم لم يراجعوا سجل الأسماء جيدًا، ولم ينتبهوا لتشابهها لكثرة القضايا والمهام التي بحوزتهم في هذه الفترة من جهة، وعدم احترافية المكلف بالتثبت والتدقيق أو سهوه ، وهو قيد التحقيق حاليا من جهة ثانية.
وقد تم القبض على "المجرم" المطلوب الفعلي البارحة، وهو يحاول الفرار إلى مدينة أخرى استعدادًا لتجاوز الحدود خلسة.
لكن…
هل يُقبل مثل هذا الاعتذار؟
هل يعيد البيت المنهوب؟
أو يعوّض ليالِ الخوف وآلام التسعين عامًا؟
وأين سيقيم صابر بعد شفائه، وبيته أصبح إثر “غلطتهم” خرابًا؟

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق