{{بطل من ورق}}
{{الجزء الثاني }}
عندما ترجلت من السيارة أخيرا، كان الوقت قد تجاوز منتصف الليل بكثير. أنا الآن في بلدتي، بعيدا عن بغداد ذات الأنوار!كنت أشعر بتشنج في كل أنحاء جسدي بعد ساعات طويلة من الجلوس المستمر في السيارة،حركت اكتافي يمينا وشمالا، ادرت رقبتي في كل الإتجاهات، ثم رفعت ساقي على التوالي لمرات عدة حتى عاد الدم يتدفق فيهما مجددا.اخذت نفسا عميقا وطويلا من هواء الريف المنعش البارد ثم تقدمت للامام، شيئا فشيئا اعتادت عيناي ظلمة الليل، ثمة أنوار أمامي ومن حولي بدت بعيدة ومتفرقة، عبرت الشارع المبلط بخطوات واسعة، أصبحت الآن أقف في بداية الشارع الترابي الطويل غير المعبد والملتوي! تبا، كانت هذه الكلمة الوحيدة التي نطقتها شفاهي بعد رحلة السفر المرهقة تلك، علي الآن السير مسافة تربو عن الألف وخمسمائة من الأمتار، هززت اكتافي وتقدمت ماشيا لكن بخطوات حذرة جدا. لم تكن رحلة السير على الأقدام في مثل هذا الوقت ولا هذا الدرب لتكون الأولى بالنسبة لي، بيد إنها تختلف هذه المرة! نعم فهذه المرة كان ثمة شعور من الخوف يسيطر علي، بأختصار كنت مرعوبا!!!مشيت مستعينا بنور القمر الشاحب، ثمة سكون مريب يخيم على بيوت القرية الوادعة، ضممت حقيبة السفر الحمراء إلى صدري، كانت معلقة إلى كتفي الأيمن وهي شبه فارغة إلا من بعض المحاضرات المتفرقة المملة بالإضافة إلى نصف كيلو من المكسرات التي يعشقها إخوتي الصغار.رغم الظلام شبه المعتم أغمضت عيني الاثنتين وأخذت أسير هكذا كالحالم تماما، وفي داخلي استحضرت جل ما أعرفه من آيات وسور، رحت اتضرع وابتهل بشدة، واردد همسا عبارات ورعة ماكنت لأرددها أصلا لو كنت في غير هذا المكان. كنت أحاول قدر الإمكان أن لاتصيب قدمي حجرا ما، لكن مهلا، كيف عساني فعل هذا والظلام يكاد يطبق حتى على أنفاسي! كتمت ضحكة رغما عني كادت أن تفلت من عقالها وأنا أتخيل منظر حبيبتي فيما لو شاهدت طريقة سيري! كنت مثل رجل آلي، أنقل خطواتي بطريقة مضحكة، وأنا أتلفت يمنة ويسرة. -الحمد لله، ليس من حركة، ولاهمس حتى، أخيرا الحظ يحالفني، وسأقضي وقتا ممتعا مع حبيبتي ولأيام ثلاثة قبل عودتي إلى بغداد!تبا كم هي مثيرة وخبيرة ! لقد علمتني كل شىء!!
رغم الظلام أحمر وجهي حتى إنني شعرت بسخونته، لقد تذكرت المرة الأولى وما تلاها، وكأنها حدثت بالأمس فحسب، اشتدت قبضتي على الحقيبة، حتى إني كدت امزقها، رغم ذلك فأني أخذت الهث!!
اللعنة، بل ألف لعنة ،يا لغبائي،ثمة لهاث حقيقي قريب مني! بل خلفي تماما، أصبحت جبهتي باردة، وبذلت جهدا خرافيا للاستدارة، كدت أن ابكي فعلا، لم يكن كلبا واحدا، بل ثلاثة كلاب شرسة وقذرة راحت عيونها تلمع تحت ضوء القمر الكئيب. تقلصت أصابع يدي اليمنى على جسد الحقيبة شبه الخالية وقررت الاتخاذ منها سلاحا، فيما لو فكرت الكلاب الملعونة بالهجوم! لكن هل فعلا الكلاب تفكر، مثلنا مثلا! وسرعان ماطردت هذه الفكرة السخيفة من بالي وأخذت بلوم ذهني الغبي! كنت مرتبكا جدا، ومغلوبا على أمري، ثم هوى الإلهام مثل مطرقة على رأسي وتذكرت وصايا ذوي الخبرة! طردت عن ذهني فكرة الجري السريع، فهي ستكون معركة خاسرة تماما، علي فقط السير ببطىء شديد مع الالتفات بحذر، والإبتعاد تماما عن النظر في عيون الكلاب بصورة مباشرة! فجأة ضربت جبهتي بيدي العارية وحمدت الرب إن حركتي هذه لم تثر انتباه الكلاب! كيف فاتني أمر الابتهال إذن!!أخذت اتضرع لله بكثير من الارتباك والخوف فيما واصلت سيري الحلزوني وانا العن في داخلي كل بيت في هذه القرية النائمة. آه، تبا، أنه المستوصف المحلي أخيرا! شعرت ببعض الراحة، ثمة أنوار شاحبة تزينه رغم ذلك، لم يعد بيتنا بعيدا، فخلف هذا البناء بمئات الأمتار ثمة سرير دافىء ينتظرني!!دنوت من بوابة المستوصف، وشعرت بأن هناك من يراقبني، كان ثمة خيال كبير لأنسان انعكس ظله في نور البناء القديم، إنه الحارس!أخذ يتأملني ثم حول بصره صوب الكلاب، وسرعان ما انحنى والتقط حجرا ثم طوح به بقوة! تفرقت الكلاب سريعا وهي تنبح، لكن ليس لمسافة بعيدة.
-هل انت خائف! نطق بها وهو يواصل النظر للكلاب التي أخذت تقترب.
-لا ،لست خائفا، كل ما في الأمر أنني لا أود إيقاظ أهل القرية وازعاجهم!
شعرت بأن حروفي الكاذبة قد التصقت في سقف حلقي، فهربت بنظراتي بعيدا عن عينيه المتفحصتين.
التقط حجرا ثانيا، طوح به بقوة أكبر هذه المرة، تابعت بنظراتي الكلاب، فرت لمسافة أبعد هذه المرة! ربت على كتفي وهمس :
-إذهب بسرعة، لاتخف، سأحرص على إبعادها ،هيا إنطلق.
أصبحت خطواتي سريعة هذه المرة، حتى أنني لم التفت للخلف أصلا، وقبل أن أصل للدار كنت قد لعنت نفسي عدة مرات، فقد نسيت تقديم واجب الشكر لهذا الحارس الطيب، وقررت مع نفسي بأني سأفعل هذا صبيحة اليوم التالي. لم يطل الوقت، تنهدت بصورة كبيرة وانا استند بكلتا ذراعي على باب دارنا الخارجي الذي أصدر صريرا مزعجا، خطوات أخيرة ثم طرقت الباب الداخلي، اواه ياربي، سرعان ما أطل وجه أمي الحبيب،رميت بكل جسدي في احضانها، شممت رائحتها، وتنفست بعمق وصدق ربما لأول مرة!.كان سريري مركونا في زاوية الغرفة، رميت بالحقيبة جانبا، دنوت من فراشي، ازحت الغطاء، تحسست وسادتي بحميمية، وسرعان ما غرقت في نوم متواصل لم يعكره شىء. صباحا شعرت بيد تعبث بشعري وتوقظني برفق، إنها أمي، تلفت جانبا ولاحت لأنفي رائحة عبير أخاذ! كانت حبيبتي تقف عند باب الغرفة وقد ارتسمت في عينيها نظرة اشتياق لا حدود لها! لحظات ثم انسحبت امي لأعداد الفطور، أغمضت عيني الاثنتين، شعرت بملمس فمها وهي تسحق شفاهي بقبلة اشتهاء طويلة، بقيت مغمض العينين، غارقا تماما في نشوة القبلة التي خلفت أثرا أشبه بطعم الحامض حلو في فمي!ثم مرت بخيالي أحداث الليل الفائت صاحبها فكرة سخيفة بأن اعوي عواءا متواصلا كما كانت تفعل الكلاب!!!
بقلم /رعد الإمارة /العراق في 22/8/2019
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق