السبت، 1 فبراير 2020

قصة قصيرة بعنوان {{عبث أطفال}} بقلم القاص العراقي القدير الأستاذ{{رعد الإمارة}}

(عبث أطفال) 
كان يكبرني بسنوات ثلاث، صبي اخرق بغمازات مضحكة! مد اصابعه القصيرة الممتلئة، ثم برقت عيناه بلمعة انتصار طفولي وراح يحدق بدهشة للدعابل الملونة التي وضعتها بأسى في كفه اللعينة! رمقني بنظرة رضا، دس الدعابل في جيبه الواسع ثم ربت على كتفي مثل رجل حكيم وقال :
_بوسعك ان تلعب مع شقيقتي لمدة أسبوع منذ الآن، لقد سمحت لك بذلك، لكن اسبوع فقط! تذكر ذلك. قال هذا وهو يرفع أصبعه في وجهي حتى كاد أن يخرق به عيني. انطلقت من أمامه مثل الأرنب المذعور، فيما ظل صدى ضحكته الكريهة العالية يلاحقني، وجدتها خلف حظائر الماشية، كانت تلهو مع شقيقتي الصغرى ورفيقة أخرى لهما من بنات الجيران، أحمر وجهي! كانت رفيقتها قد همست بشئ في اذنها، رمقتني عندها من بين الصبيتين المتقرفصتين واحمرت وجنتاها! صفعت شقيقتي التي همست هي الأخرى بشئ لم اسمعه او اتبينه، ثم أطلقت لساقيها الريح صوب سيقان عباد الشمس التي كانت تنوء بحملها. نظرت يمينا وشمالا، ثم عادت نظرتي لتستقر على الصبيتين الضاحكتين، تبا! حتما هي اخبرتهن بكل شئ، لطالما كنت حريصا، وقد تصرفت بحذر كما يفعل الكبار، هززت كتفي، أطلقت العنان لقدمي انا الآخر، توقفت عند المكان الذي اختفت فيه، تلفت حذرا، ثم غبت خلفها. سرت متمهلا وانا اتلفت باحثا عنها، لم أكن خائفا كثيرا، فشقيقها كان قد منحني وعدا كبيرا يليق بصبي طماع واحمق مثله! وجدتها اخيرا، كانت مستلقية خلف تلال مخلفات الماشية التي تكدست في شكل أكوام كبيرة متفرقة، حالما رأتني تورد وجهها، سقط عود عباد الشمس الذي كانت تعبث به،رمقتها بشغف، التفت خلفي للمرة الأخيرة، لاشئ، لا أثر لمخلوق او حيوان! انحنيت بسرعة وقبلت فمها المالح، لم تجفل، كانت قد توقعت حركتي هذه التي لطالما كررتها مرارا وتكرارا، التصقت بها، همست في عنقها فيما كان صدرها الصغير يعلو ويهبط :
_دعينا نجد مكانا آخر، ستحضر الصبيتان عاجلا ام آجلا، ربما هما تتلصصان الآن، هيا تعالي خلفي. لم نبتعد كثيرا، كان ثمة مكان اعرفه، فسحة صغيرة لكنها شبه منزوية وغير مطروقة كثيرا، رفعت رأسي عاليا وانا احدق يمينا وشمالا من فوق سيقان عباد الشمس المغبرة، كانت تقف غير بعيدة عني، دنوت منها وسحبتها من ذراعها النحيلة، برقت عيناها على استحياء، مددت اصابعي العشر واحطت بوجهها المنحني ورفعته، حدقنا ببعضنا ثم ضحكنا بجذل! جلسنا متكئين على بعض سيقان عباد الشمس الكثيفة، كان كتفانا ملتصقان وفي داخلنا كان ثمة شئ يغلي، استدرنا لبعضنا، راحت اصابعنا المتشابكة تعبث مع بعضها، كنا نجهل ماذا يمكن أن يحصل بعد ذلك! فأعمارنا لم تكن قد تجاوزت الثالثة عشرة بكل الاحوال، جربت الانقياد خلف غريزتي، ثمة قصص قد سمعتها عفوا بشأن ذلك من بعض الكبار! مددت يدي صوب صدرها البض الصغير، كان ثمة نتوءان بارزان خلف ثوبها البني الداكن، احتكت رؤوس اصابعي بطرف النتوء البارز! ندت عنها شهقة، ارتدت بسرعة للخلف وقد احمرت وجنتاها، راحت تتلفت واصابعها تعبث بشعرها الذهبي المنفوش، دنوت اكثر منها، اخذت رموشها ترتجف، احطت كتفها بذراعي ثم ضغطت جسدها النحيل وجذبته نحوي، جفلت الشقراء مبتعدة وكأنها اشتمت رائحة الخطر! لاح الرأس الكبير لشقيقها المندفع خلف الصبيتين المذعورتين، صوب نظره الي وارتسمت بسمة ساخرة على زاوية فمه، ازاح البنتين جانبا ثم تقدم نحوي، ابتلعت ريقي بصعوبة، رحت احدق في كفيه المضمومتين واصفرت ملامح وجهي، حتما سيضربني، هكذا فكرت! حانت مني نظرة سريعة لشقيقته بشعرها الأشقر المنفوش وقد احاطت بها الصبيتين شبه الباكيتين، وعندها فقط قررت الصمود والقتال ان تطلب الأمر ذلك. راح يدور حولي، تعلقت نظراتي الجامدة في بعض أوراق عباد الشمس التي راح النسيم يعبث بها، كنت متوترا وكانت ركبتاي تصطكان مع بعضهما، واصل الدوران ثم توقف، كان بوسعي سماع نحيب البنات المتقطع، وضع كفه السميكة على كتفي، ضحك ضحكة قصيرة مبتورة، سمعته يهمس بأذني فيما واصلت اصابعه الضغط على كتفي :
_لقد خسرت كل الدعابل التي وهبتني اياها، اتعلم! لم يتبق لدي ولا حتى واحدة صغيرة. هبط جسدي للأرض دفعة واحدة، أصابني قوله بأكبر اندهاش يمكن أن ينتاب صبي مثلي! رفعت رأسي وتمعنت في ملامح وجهه المستدير، كانت ركبتاي لازالتا ترتجفان، ضحكت فجأة مثل ابله ووضعت يدي في جيوبي، انعقد حاجبيه وهو يحدق في يدي المدسوسة، هززت كتفي، اخرجتهما فارغتين! اللعين، سلبني كل دعابلي ذات الألوان الزاهية. لم يفهم في البداية، راح يحدق بصورة جامدة في فراغ كفي الممدودة، انحنى ووضع فمه قريبا من اذني، ثم همس بصوته الكريه :
_لديك، اعرف انك مازلت تحتفظ بالكثير منها في داركم، عليك أن تجلب لي المزيد. كانت اصابعه تواصل الضغط مع كل حرف يخرج مع أنفاسه الكريهة، نظرنا لبعضنا بتحد، لم ترمش عيناه، راح يهز رأسه مرات عديدة، فيما كادت اصابعه ان تنغرس في كتفي، نهضت وانا أصر على اسناني، فكرت هل بأمكاني تحطيم بعضا من أسنانه لو انني لكمته بقوة وهربت! التفت صوب البنات وجذبني منظر شقيقته بشعرها النافر، كانت ماتزال ترتجف رغم احتضان الصبيتين لها، حولت بصري نحوه وهمست له وأنا احدق في بطنه المكورة :
_هيا بنا، سأعطيك ماتبقى من دعابل لدي، ستمضي فترة طويلة قبل أن احصل على المزيد منها. هتف وهو يحاول اللحاق بي :
_هذا واضح، واضح جدا. مضى يومان ثقيلان قبل أن يتجدد لقاؤنا، وجدتها كالعادة تلهو مع الصبيتين المشاكستين، دنوت منهن ورحت ادور حولهن، أخرجت بعض الحلوى من جيوبي، كانت أمي ماهرة في إعداد هذا النوع من الحلوى، وزعت بعضا منها على الصبيتين، لكني احتفظت بالقسم الأكبر لها، احمر وجهها وهي تحدق في لساني الذي راح يلعق حبات السكر الملتصقة على أطراف اصابعي، خبأت حصتها في جيبها، ثم واصلت اختلاس النظر الي، مع ذلك كنت ما ازال احتفظ ببعض الدعابل القليلة في جيبي، تلمستها بأصابعي المبتلة بلعابي وتنهدت وانا اسمع خشخشتها! أطلقت لساقي الريح انا هذه المرة ، وقبل ان اختفي خلف القصب وسيقان عباد الشمس، التفت لبرهة فوجدتها تلاحقني ببصرها. جلست متقرفصا في ذات المكان، رحت اجذب الأعشاب النافرة من حولي، لقد تأخرت هذه المرة! مر الوقت بطيئا، لا أثر لها، واصابعي مازالت تجذب الأعشاب بصورة آلية مملة، انتابني القلق، ليس من عادتها أن تفعل هذا بي، طيب سنرى هكذا همست لنفسي بغضب وقد قررت العودة. اخذت امشي بين سيقان عباد الشمس الجافة شارد الذهن، حين خيل لي بأني قد سمعت صوتا بشريا! توقفت في مكاني، كان الصوت حقيقيا وقريبا جدا، اشبه بأنين، تقدمت بحذر شديد وانا اتوجس خيفة، لم أكن جبانا تماما، لكن الحذر كان واجبا في هذه اللحظة، اقتربت اكثر، تبا! لقد ميزت الصوت بسهولة، لكن ماذا يفعل صاحب الصوت الكريه هنا! ومع من تراه يتحدث بغضب هكذا؟ ازحت بحذر بعض عيدان عباد الشمس، طالعتني عينيها المذعورتين الدامعتين، وكأنها كانت تعلم مسبقا بحضوري. كانت مستلقية على بطنها، تحدق بعينيها الزائغتين في الفراغ، فيما ارتفعت كلتا يديها فوق شعرها الذهبي المنفوش وكأنما أرادت ان تحميه من شئ مجهول! لكن لا، لم يكن الشئ الجاثم فوقها مجهولا ابدا، كان شقيقها اللعين قد أطبق بجسده فوقها حتى كاد أن يخفيه! اما عيناه فكانتا بعيدتان عن مرمى بصري، إذ كان يخفي رأسه الكريه في طيات شعرها، ارتسم الذعر والخوف والخجل بصورة واضحة وجلية في عينيها حين التقت نظراتنا، بقيت احدق مذهولا ومندهشا فيها! كان قلبي يدق بسرعة، وقد شلتني المفاجأة فسمرتني في مكاني! طفرت الدموع من عيني او كادت، واحمر وجهي غضبا، وجدت نفسي اهرول بعيدا غير عابئا ولامكترثا بوخز الأشواك في قدمي، وصلت قريبا من دارنا، التففت خلف سياج بيتنا الطيني الكبير وقرفصت هناك ثم بدأت اتقيأ. وجدت نفسي بعد لحظات استرجع بذهني صورة لما رأيته هناك، انسابت دموعي، رحت ابكي وارتجف كأني رجل كبير! حل المساء بسرعة، بدأت الجنادب تصدر أصواتا كريهة، فيما طغى نقيق الضفادع على صوت شقيقتي وهي تنادي علي بصوتها الرفيع الخائف، استجمعت شتات نفسي ونهضت متحسرا ومتنهدا بصوت مسموع، كانت تعرف أين تجدني، وقفت خلفي ثم همست بصوتها :
_تعال، أن أمي سألت عنك، وقد ارسلتني للبحث، هم ينتظرونك، لقد تركت أمي تسكب العشاء. التفت نحوها، لم أنبس بحرف، مسكينة هي لاتعرف! لكن قد يكون هذا البدين السخيف الكريه وقحا حتى مع شقيقتي ورفيقتها، من يدري، تبا! لابد أن أفعل شيئا، دنوت من شقيقتي التي كانت تعبث بردائها، مسحت على رأسها، سرنا نحو البيت وقد قررت أن اتصرف بشكل طبيعي. في اليوم التالي لم ابارح بيتنا، بقيت راقدا في سريري، كانت أمي وشقيقتي الصغرى تحومان حولي وهما ترمياني بنظرات الاستغراب! فآخر مايمكن ان يحدث من المفاجآت في هذه البقعة من الأرض من وجهة نظرهما، أن ابقى راقدا في فراشي وعيناي تصافحان سقف الغرفة. بعد ظهيرة نفس النهار جررت نفسي واتكأت مستندا بظهري إلى جدار البيت، كانت أشعة الشمس ترسل شواظا من نار، حتى أن رأسي بات يدور وأصبح جسدي ساخنا، ثم خطرت لي فكرة، سأقطع بها ساعات ماتبقى من هذا النهار الممل، قررت أن اسبح في النهر العميق البارد الذي لايبعد عن بيتنا كثيرا. مددت ساقي، كانت مياه النهر فعلا باردة ومنعشة، تخلصت من قميصي بسرعة ورميت به على الجرف، تراجعت خطوتين للخلف ثم هرولت بأقصى مالدي من قوة، ألقيت بنفسي محلقا في الهواء، قبل أن يهبط جسدي ناثرا رشاش المياه على حافة الجرف، غطست مرة ومرتان، رحت اجذف بذراعي للخلف وللامام وكنت في أثناء ذلك اراقبها من بعيد! كنت اعرف ان شقيقتي المشاكسة ستتبعني، هتفت بها وأنا ارمي الماء بكفي صوبها :
_أظهري نفسك، لقد رأيتك، ثوبك الأحمر يفضحك ياغبية. راحت تضحك وهي تتقدم نحوي، كنت اميل إليها من دون كل اخوتي الآخرين، ربما بسبب كونها آخر العنقود، أو لأنها كاتمة أسراري اللعينة! توقفت عند جرف النهر، راحت تمد ساقها بحذر، نهيتها عن التمادي في عبثها، رغم علمي بأنها تحسن العوم تماما، فأنا من علمها ذلك! قالت وهي تدير عينيها في كل الاتجاهات بصورة بدت خرقاء وكأنها قد ارتكبت ذنبا :
_هناك من يريد رؤيتك، شخص يعزك جدا. قالت عبارتها هذه، ثم استدارت منطلقة كالغزال النافر، وهي تختبئ خلف الشجيرات القريبة المتشابكة. كففت عن العوم، رحت احدق في المكان الذي تلاشت خطوات شقيقتي فيه،شخص عزيز! من تراه يكون، وما علاقة شقيقتي به! رحت اهرش رأسي وانا أفكر، لحظات ولاح من بعيد الرأس المتوج بالشعر الأشقر الذي اعرفه! تبا! غطست بسرعة حالما التقت نظراتنا، ظننت لوهلة بأني سأهرب منها بهذه الحركة، سحقا! لم تسعفني انفاسي، سرعان مالاح لهما رأسي، وجدتها وشقيقتي تحدقان في بنظرات متوسلة تحمل الكثير من الخوف والحذر والترقب! أدركت سريعا بأن اية نبرة غضب في صوتي، ان تحدثت اليهما ستكون كفيلة بأن تجعلهما يلوذان بالفرار! فكرت بأني لا أود لهذا ان يحدث، ليس قبل أن أعرف الحقيقة من بين شفتيها! اقتربت من الجرف، وضعت كلتا ذراعي على الحافة، كانت ملامح وجهي عابسة، اقتربت شقيقتي مني بحذر، همست بصوت ضعيف :
_سأراقب الطريق. احنت رأسها واستدارت، لم تنطق بأكثر من هذه العبارة، ولم اكلف نفسي عناء الرد عليها حتى! وجدت نفسي وحيدا مع فتاتي النحيلة الخائفة، كانت واقفة حائرة، حدقت فيها بغضب اول مرة، لكن غضبي هذا سرعان ماتبخر، عندما شاهدتها تنهار باكية وهي تجلس على الأرض! كانت الخدوش تملأ خديها وذراعيها، خدوش كثيرة وكأن قطا كبيرا قد خمشها! عندما جلست بقربها، فهمت منها بأن شقيقها هو من فعل بها كل هذا، قلت لها :
_لماذا لم تمنعيه! لماذا لم تخبري أهلك بما جرى!؟
_لقد هددني بك، هو يعرف مابيننا! لقد خفت كثيرا عليك. راحت تنشج بصوت عال، ارتديت قميصي بسرعة، رحت احدق فيها وانا احاول التفكير، الملعون هو يعرف كل شئ اذن! الآن فهمت معنى ابتسامته الساخرة وضحكته الكريهة، واصراره على سلب كل مقتنياتي من الدعابل! طيب سنرى! هتفت بها، بعد أن انهضتها عن الأرض وانا اجفف دمعها بأصابعي :
_اذهبي الآن، قد يحضر في أية لحظة، لايجب أن يرانا مع بعض، اليوم على الاقل! ستخبرك شقيقتي متى يكون موعد لقاؤنا التالي، دعيني أفكر في حل لهذا الموضوع، وداعا الآن. رحت اتابعها بنظري قبل أن تخفيها سيقان عباد الشمس المنحنية، قررت مع نفسي بأنه لابد أن اتصرف! لكن كيف!؟ وما عساني صانع بهذا البدين، انه يكبرني حجما، كما أنه أقوى مني بالتأكيد!! كانت شقيقتي تمشي بجانبي عندما عدنا، لم نتحدث بشئ، لكن قبل أن ندخل للدار، التفتت صوبي وقالت :
_نحن ثلاثة، لاتنسى ذلك. رحت احدق فيها، بوجهها النحيل، كانت رغم عمرها الصغير تفهم معظم مايجول في ذهني، أمسكت بيدها وضغطت على اصابعها بقوة! اتسعت عينيها وصرخت بصوت ضعيف، لكنها مالبثت أن ضحكت وفرت من أمامي للمطبخ. كانت ليلة طويلة تلك التي قضيتها في فراشي وانا اتقلب وافكر جاهدا، كانت اغلب أفكاري خرقاء مثلي! فكرت مثلا بأن أبقر بطن البدين بسكين المطبخ الكبيرة، ثم فكرت بأن احراقه وهو راقد بين أكوام التبن افضل وأسرع! وجدت قبل أن أغرق في النوم، بأن الأفكار تراكمت وتجمعت في صف طويل أمامي، وكل منها تقدم اغراءا وحلا لما انا فيه! بالنهاية غفوت وظلت الأفكار تعبث مع بعضها البعض في ذهني الصغير. كان صباحا عاديا، كسائر غيره من الصباحات! تناولت الفطور مع اخوتي، الذين اسرعوا بألتهام البيض ثم فروا خارجا، ظلت شقيقتي تحوم حولي، بدت قلقة، ظهر ذلك واضحا في ملامحها، قلت لها :
_بوسعك ان تلعبي في الخارج، لكن كوني حذرة. اللعينة! كانت قد اختفت من أمامي فرحة، حتى قبل أن انتهي من عبارتي، ملأت جيوبي بآخر ماتبقى لي من الدعابل، تنهدت متحسرا، علي أن ابتاع المزيد منها، لكن ليس الآن على كل حال، مددت رأسي من الباب، كان الطقس دافئا، تسللت خلف جدار بيتنا الذي يشرف على حقول عباد الشمس، كان اخوتي الصغار وبعضا من صبيان الجيران يلهون مع بعضهم، قررت الإبتعاد صوب النهر العميق، لم أكن بمزاج يسمح لي برؤية البدين، حتما هو يحوم حول الدار الآن! لفحتني نسمات باردة هبت قريبا من أذني، كانت مياه النهر ساكنة، رحت اتفحص المكان، راقت لي بقعة صغيرة من الأرض، بدت صلبة، رسمت دائرة بأحد العيدان القوية ثم خطا مستقيما في وسطها، تأملتها بعين الرضا، أخرجت دعابلي الملونة، كان منظرها بهيجا وهي تلمع تحت أشعة الشمس، صففتها على الخط المستقيم بعناية، ابتعدت للخلف، تأففت بحسرة، لم يكن لطيفا اللعب بمفردي، حاولت التركيز لكن أفكاري كانت تسبح بعيدا، سرعان ماشعرت بالملل بعد جولة واحدة من اللعب بمفردي! كنت منحنيا اجمع الدعابل بأصابعي، حين حجب الشمس خيال ضخم، رفعت رأسي بسرعة، سحقا! إنه البدين بشحمه ولحمه! رماني بنظرة تحد قصيرة ثم حول بصره نحو الدعابل وراح يحدق فيها بأشتهاء عجيب! ببطء شديد افرغت كفي من الدعابل، كنت أدرك انه سينتزعها مني إن خبأتها في جيوبي، اخذ يدور حولي، كان يصفر بفمه لحنا كريها مثله، توقف خلفي فجأة، انحنى برأسه الكبير، همس :
_مارأيك بأن نلعب دورا صغيرا معا، انا بحاجة لهذه الدعابل، في كل الأحوال سآخذها لأني سأغلبك! قلت له وانفي يرتجف، فيما راح قلبي يخفق بسرعة :
_وعلى ماذا سأحصل إن هزمتك! انت لاتملك شيئا كالعادة. انحنى اكثر وراح يتنفس غاضبا في إذني، قال بفحيح بشري اخافني :
_سأمنحك اسبوعين هذه المرة، اذا تركتني اغلبك سأتركك تلعب مع شقيقتي كل هذه المدة. التفت للخلف، حدقنا ببعضنا لبرهة، هربت بنظراتي من ضحكته الكريهة، كنت على وشك الموافقة، حين سمعت حركة خلفي، استدرت برأسي سريعا، كانت اللعينتان شقيقتي وشقيقته قد اطلتا برأسيهما كالعادة، ما أن لمحتهما حتى غمرني شعور بالغضب انا الآخر، ترددت في منحه مالدي من دعابل، نظرت اليه وتكلمت بصوت عال هذه المرة، قلت له :
_سنلعب، ان فزت انت ستأخذ كل الدعابل، لكن إن خسرت، سألهو مع شقيقتك ثلاثون يوما، هه، مارأيك!؟ راح يرمقني بدهشة وكأنه يراني لأول مرة، قد يكون صوتي القوي اخافه قليلا! لكن لا، فمثل هذا البرميل لايخاف بسهولة. اخذ يهرش أنفه بأصبعه السبابة، عقد مابين حاجبيه، ثم فجأة دفعني بيده في صدري، تراجعت قليلا للخلف، لكنه تقدم بسرعة لاتتناسب وجسمه البدين وضرب يدي، تبعثرت الدعابل على الأرض وسقط بعضها في المياه قريبا من حافة الجرف! كان غاضبا جدا، وقد ارتسم الحقد بصورة واضحة في ملامح وجهه المنتفخ، هرولنا صوب الدعابل المبعثرة يتبعنا صوت الصبيتين المذعورتين، التقطت بعضها، كنت أخف منه حركة، انحنيت قريبا من حافة النهر، لم انتبه لحركة ساقه ولا لصوت التحذير من الصبيتين، وجدت نفسي غاطسا في مياه النهر وضحكته الكريهة تلاحقني. رحت انظر اليه، دس بعض الدعابل في جيبه، حول نظره الى الجرف، راح يبحث جاهدا عن ماسقط منها، توقفت خطواته فوق رأسي تماما، غرزت اظافري في الحافة وتشبثت بقوة، كانت بعض الدعابل تملأ كفي، انحنى وهو يحدق في كفي المضمومة :
_ناولني مالديك من دعابل وسأخرجك فورا، أعدك بذلك. سمعت صوت شقيقتي شبه الباكي وهي تصرخ فيه بقوة :
_لاتصدق كلامه، أنه ماكر. استدار نحوها بكامل جسده، راح يهددها بيديه وقدميه، انزوت شقيقتي بعيدا، شعرت فجأة بأن ثمة بركان من الغضب قد أخذ يغلي في رأسي، جذبت ساقه بقوة نحوي، فأنهار جسده دفعة واحدة، اختل توارنه وهوى منزلقا في مياه النهر العميق! ابتعدت بسرعة للخلف وانا أكاد أشرق بضحكتي، كان منظره فعلا مضحكا برأسه الكبير ويديه اللتان أخذتا تتخبطان وهما تحاولان عبثا الوصول إلى حافة الجرف، اللعنة! رحت احدق بذهول، وانا أتراجع اكثر بجسدي للخلف، انه لايحسن العوم! سيغرق بالتأكيد، دنوت منه وقد اصفر لوني، لكن صراخ الصبيتين ابعدني اكثر عنه، كان يحاول الوصول إلي، ظل يدور ويغطس وهو يرمقني بغضب وحقد! رحت اسبح بعيدا عنه، وبأقصى مالدي من سرعة، فيما كان صراخ البنتين المذعورتين يلاحقني، تمسكت بحافة الجرف،اخذت ارتجف بشدة لكني لم التفت للخلف، حاولت الصعود لكن يدي لم تسعفاني، مدت الصبيتان اذرعهما وراحتا تجراني جرا على الأرض، استلقيت بكامل ثيابي وانا الهث، فيما كان صوت نشيج الصبيتين يعلو. التفت بحذر، كان النهر قد ساده السكون الآن، حدقت في بقعة المياه التي كان البدين يدور فيها، غير اني حولت بصري بسرعة، همست بضعف :
_أين ذهب، ألم يخرج!؟ لقد تركته خلفي.
_لقد غرق، كان يصرخ وهو يغطس هناك. كانت شقيقته التي كفت عن البكاء هي من نطقت العبارة الأخيرة وظلت تشير بيدها نحو النهر، نظرت لها بخجل وخوف، شعرت بأنها يمكن أن تتحدث بالأمر، وجدتها فجأة تضغط على كتفي وتحدق في وكأنها امرأة راشدة :
_سنقول انه كان يلعب بالدعابل قريبا من جرف النهر، ثم سقط واختفى لوحده. قاطعتها بيدي، قلت :
_لا، ليس هكذا، سنقول إنه كان يلعب بالدعابل طبعا، ثم وقعت احداهن في المياه وانحنى ليجلبها، فزلقت قدمه واختفى، سنكون ثلاثة، علينا أن نحفظ الكلام جيدا! ثم اننا لسنا كبارا، لامصلحة لنا في موته ولن يرتابوا بنا، سأقول اني رميت بنفسي خلفه، واريهم ثيابي المبللة. صدقنا الجميع! والأيام مرت بسرعة، لقد قمنا بأداء أدوارنا بصورة أفضل مما لو كنا كبارا بالعمر! مع ذلك كففنا فترة عن اللهو واظهرنا الحزن، وظلت شقيقتي هي حلقة الوصل بيننا انا وشقرائي، تبا٦، نسيت أن اخبركم بشئ، عندما عثروا على البدين الغارق تماما والمنتفخ اكثر من ذي قبل، وجدوا كفه اليمنى منطبقة على بعض الدعابل، وذلك عزز من من روايتنا المحبوكة! وهكذا انتهى الصيف ومرت الأيام واخذنا ننمو وننمو بسرعة! احيانا وانا احدق من خلال النافذة، لبعض النقاط الوهمية التي يرسمها خيالي، أبتسم رغما عني، وتلمع في عيني نظرة غريبة، وأهمس مع نفسي :
_هل انا سعيد حقا، وهل أصبحت قاتلا أخيرا! ثم سرعان ما اتنهد وانا أفكر أكثر وأكثر بتفاصيل، جريمتنا الأولى!!!

بقلم /رعد الإمارة /العراق
٢٦/١٢/٢٠١٩

ليست هناك تعليقات: