الثلاثاء، 16 سبتمبر 2025

قصة قصيرة تحت عنوان{{وردة في مهب الريح}} بقلم الكاتب القاصّ المصري القدير الأستاذ{{ماهر اللطيف}}


وردة في مهب الريح

بقلم: ماهر اللطيف

كان يتهادى يمينًا وشمالًا، لا يميز بين خطاه، جسده يترنح ويميل نحو السقوط بين الفينة والأخرى. تفوح منه روائح كريهة يستعيذ منها الشيطان نفسه، يدخن سجائره تباعًا دون انقطاع، يهذي بكلمات غير مفهومة، ويؤدي حركات لا يدري معناها ولا سببها.

كانت الساعة تشير إلى منتصف الليل والربع، والريح تعصف بأبواب القصدير في حيّ المدينة الصغيرة. المطر الغزير يسقي سطوح الأكواخ المثقوبة، والبرد القارس ينهش أجساد سكان الحي البائسين.

دفع الباب بقوة كعادته، فأصدر صريرًا مقززًا ترتعد له الأبدان. أغلقه وراءه وهو يقضم شفتيه كي لا يوقظ أطفاله من نومهم، تحسس الجدران متلمسًا خطاه، وبلغ مضجعه بعد لأي. نزع حذاءه، ففاحت رائحة جواربه النتنة تسمّم المكان، خلع ثيابه وانهار على الفراش دون أن يتفقد زوجته أو أبناءه.

في تلك اللحظة، كان كريم يتلوى تحت وطأة الحمى، يحاول الصراخ فلا يطاوعه صوته، يبكي بحرقة، يحفر بأظافره الأرض من شدة الألم. يجذب صالحًا من يده، ويركل مسعودًا برجله، لكنه لا يجد من ينجده. لم يتجاوز السادسة بعد، وقد بدا وجهه يزرقّ ويشحب، والعطش يفتك به.

تماسك بصعوبة حتى بلغ سرير أمه، جذبها من رجلها، فاستفاقت مذعورة. أضاءت الغرفة فإذا بها تصرخ، تضم طفلها إلى صدرها وهي تكز زوجها من فخذه:
– انهض يا رجل! ابنك مريض، يجب أن نسعفه إلى المشفى.
(وزوجها يشخر لا يحرك ساكنًا...)

ارتدت معطفها البالي واندفعت خارجة وهي تحتضن كريم. ركضت تحت المطر، دامعة العينين، تهمس في أذن صغيرها، تقبله، تتحسس نبضه وأنفاسه حتى بلغت المشفى حيث تمدده الأطباء على طاولة الكشف.

في الخارج كانت السماء تمطر بغزارة، الريح تعصف، الأبواب تصطفق، والديكة تصيح، والأذان يرتفع من مآذن الجوامع. وحده سالم ظل ممددًا يتلذذ بموته الصغير.

نهض الأبناء الأربعة: صالح، مسعود، رياض، وهويدا. بحثوا عن أمهم وأخيهم، وحاولوا إيقاظ أبيهم، لكنه لم يستجب. بَكوا وتحيّروا، حتى ولجت وردة تحمل كريم بين ذراعيها، وملامحها قد استعادت الحياة. كان صغيرها ما يزال يئنّ، وفي يدها وصفة مليئة بالأدوية.

أعدّت لأبنائها فطورًا سريعًا وهي تتمتم: كيف العمل؟ من أين المال لإنقاذ ابني؟ هل يكون سالم أبًا بحق ولو لمرة واحدة؟
وانغرست في خاطرها صورة قديمة: أيام كانت تجمع القوارير وبقايا الخبز، تبحث في الحاويات عن قوتها. هناك التقت سالم الذي كان يفعل مثلها، فنشأت بينهما علاقة توجت بالزواج.

 لكنها لم تحصد غير رجل مدمن على بنت العنب، ضعيف الإرادة، ضيق الأفق، فيما كانت هي تحلم بحياة أفضل لأبنائها.
أفاقت من شرودها على صوت صالح يشدّ ثوبها: "جعت". أسرعت تطعم أبناءها، ثم عادت تهمز سالم حتى فتح عينيه متبرمًا:

– ما بكِ؟ لِمَ توقظينني؟

– ابنك مريض، ألا تخجل؟ متى ستتحمل مسؤولياتك وتكون أبا صالحا مثل بقية الآباء ؟.

– لا مال عندي... أقرضت البارحة ثمن السجائر.  كفي عن هذا الهراء المعتاد

– إن لم نقض على الجرثومة، قضت هي على ابننا!

لكنه لم يأبه، اكتفى بالقول: "عالجيه كما كان الأجداد يفعلون"، وبدّل ثيابه وخرج مسرعًا يبحث عن ثمن سكرته المسائية.
أما وردة فاتجهت إلى صيدلية الحي تستجدي ثمن الدواء. قوبلت بالسبّ والنهر والازدراء، فالناس يعرفون زوجها وسوء سمعته. وأخيرًا رقّ لها جار كريم فاشترى ما في الوصفة.

عادت إلى بيتها وفي قلبها غصّتان: فرح لأنها ستقهر الجرثومة التي تنهش جسد صغيرها، وحزن عميق من الهوان والمهانة التي لحقت بها، وغضب من رجل لم يكن يومًا سندًا ولا معينًا، بل ثِقلاً جاثمًا على صدرها. 

ليست هناك تعليقات: