(في عتمة الحافلة )
سلسلة قصصية
"الموسم الرابع"
٢٠٢٣
------------------------------------------------
القصة الأولى
"يادنيا"
-٢-
بقيت أتأمل تقاسيم وجهها ..ابتسامتها ..ضحكتها.. وبعض العلامات الشبيهة جدا بعلامات عرفتها بأمرأة أخرى في الماضي.
عندما مسحت على شعرها ظهرت أذنها التي تخلصت من الكثير من زينة الأذن التي كانت تغطي كامل أطراف أذنيها بالاقراط والسناسيل،وأبقت قرط واحد فقط مكتفية به ؛لكن بقيت الثقوب ،هكذا يبدو .. بالطبع أن تلك الثقوب قد تسببت في الكثير من الآلام لها أثناء ثقبها ،لاأعلم لماذا نحب الألم لأنفسنا..كم نحن ساديون.
وشم حفر على رقبتها لم أتمكن من رؤيته بشكل جيد بسبب سرعة عودة شعرها الشديد النعومة إلى وضعه الطبيعي، وكان أيضا لناديه وشم في هذا المكان نفسه.
أستمر تجاذب أطراف الحديث بيننا فحدثتني عن حياتها باسهاب وراحة كمن وجدت إنسان ترتح له لتبوح له لواعج قلبها،
ثقافتها الكبيرة والمتنوعة.. وشباب قلبها ؛ ذلك كله جعل للرحلة متعة خاصة، أنستني آلامي وما أنا به قالت:
-أمضيت الشطر الأكبر من حياتي في مهنة التمريض ..أحببت تلك المهنة تحديدا لأنها تمنح العناية والرحمة والسعادة للآخرين ؟
-لماذا لم تتزوجين للأن وأنا أرى بنظري الذي لم يخذلني يوما بأنك كنت تمتلكين الجمال والثقافة ..بل لازلت تمتلكين كل ذلك.
إبتسمت وقالت شاكرة ذلك الإطراء :
-هههههه لم أجد ابن الحلال بعد ..آه..بعد تجربتي الأولى الفاشلة لازلت معاهدة نفسي على ألا أعيش تجربة أخرى..أن الحب الحقيقي يجب أن يتوج بالزواج ليكون التكامل والمودة والرحمة ،بينما أنا كنت قد منحت حبي لواحد فقط ..لم أحب غيره ..ولن أحب غيره لأن القلوب لم توجد للتجارب؟
-حقا أنت انسانة عظيمة.
-أشكرك..وأنت ..لابد أنك متزوج ولديك أسرة؟
بلحظة أعادتني إلى واقعي المؤلم فتنهدت وقلت بمرارة:
-أنا..آه مني أنا..
-لاتهتم ..لاشيء يستحق الألم ..تحدث أنا أسمعك؟
-لقد مررت بعدة تجارب جميعها إنتهت بالفشل ، كل ذلك حدث بعد تجربتي الأولى..لسوء حظي كنت معتقدا أن التجارب يمكن أن تنسي المرء حبه الأول.. قمت بخطبة ثلاث فتيات ودائما قبل أن يتم الزواج يكون فسخ الخطبة، ذلك بعد فشل أعظم تجربة حب مررت بها ..حبي الأول ..الحب الحقيقي والذي ....آه ..المعذرة لاأستطيع متابعة الحديث عن ذلك...
-كما تريد ..لكن الأن ؟
--الأن ..أخيرا أنا سجين القفس الصدىء مع زوجة متسلطة ..بل كنت ..لأني أنا الأن هارب إلى المجهول ..أي حر طليق ؟
-إذن أنت أنسان مشتت المشاعر مثل الكثير من الرجال.
-ربما؟
-وهل كانت جميع الخلافات اسبابها الأطراف الأخرى..أم أنت قاسي القلب.
-أنا..إنسان ..قد أخطىء وقد أصيب في إتخاذ القرارات..أنا لست ملاكا قد أتسرع في إتخاذ القرارات ..لكني لا أرى نفسي قاسيا ..ل..لكن..
قالت لتحثني على متابعة الحديث:
-أكمل ياعزيزي ؟
-أما هي..أ..أقصد حبيبتي، لم أكن أقصد الإساءة إليها ..فأنا لازلت أحبها..حقا لازلت أحبها..ليت الزمان يعود ..
-نعم...تابع ؟
شعرت بصداع مصاحب لارهاق شديد يجتاح جسدي بأكمله..أمسكت رأسي بواسطة كفي ،قالت :
-إهدأ ياعزيزي ..هل تشكو من ضغط الدم أو السكر وماشابه ؟
-لاأعلم ..فأنا لاأستلطف الأطباء ولهذا لاأزرهم.
قالت وهي تنهض لإنزال حقيبتها من رفوف الحقائب العلوية:
-لاتستلطفهم ..أم تخشاهم..أم تخشى المرض..حقا أن الرجل يبقى طفل كبير؟
جلست من جديد.. فتحت حقيبتها ..أخرجت جهاز فحص السكر في الجسم ..وأداة ثقب الأصبع وقالت ملاطفة:
-أعطني أصبعك دادا ههههه لكن دون أن لاتبكي؟
أخذت من طرف أصبعي نقطة الدم التي ظهرت ووضتعها على شريط الجهاز وقالت :
-الدرجة جيدة ..ممتاز؟
أعادت الجهاز إلى حقيبتها وقالت وهي تخرج جهاز فحص ضغط الدم المحمول:
-أنا أحرص دائما على وجود كل شيء في حقيبتي ، لقد أورثتني الحياة السكر وضغط الدم وغير ذلك، أعطني ذراعك ..أتعلم ..أنت تكاد أن تشبه شخص أعرفه ..هذا فيما لو كنت أصغر عمرا من ذلك لقلت أنك هو ..لكن هو الأن في نفس عمرك..أه.. كم أتمنى له السعادة.. يبدو أنك ترهق زوجتك كثيرا ههههه وهي الأن ربما تجوب الحارات والشوارع بحثا عنك ههههه؟
كشفت عن ذراعي ومددتها أمامها ..لكن ماأن أمسكت بذراعي حتى إرتعش جسدها بأكمله وضغطت عليها بقوة ونظرت إلى سقف الحافلة مغمضة عينيها وتمتمت:
-يالهي ..ياالهي لماذا ؟
ثم أخرجت نظارتها الطبية من الحقيبة ووضعتها على عينيها
وأخذت تتأمل وجهي للحظات ،ومن ثم تابعت فحص ضغطي وقالت بصوت متحشرج:
-أن ضغطك أيضا ممتاز ،لازلت "تتدلل"؟
-أشكرك لقد أتعبتك معي .
تأخرت في الإجابة ثم قالت عبارة المجاملة المتداولة بين الناس :
-بل أن ماتسسببه لي من تعب بل هو راحة لي ؟
أعادت كل شيء إلى مكانه ..مسحت دموعها وصمتت كما وأنها تذكرت إبن غائب.
خيم الصمت لدقائق ..لكن كنت أحدثها بينما هي تنظر في وجهي متأملة دون أن تتكلم ..فكانت تبتسم إبتسامة ممزوجة بالمرارة والاشفاق معا.
مرت بنا المضيفة في أخر جولة لها قبل وصول الحافلة إلى نقطة التفتيش وذلك يعني الوصول إلى ميناء العقبة ،قلت لها:
-أتسمحين لي بأن أعزمك على نسكافيه؟
قالت :
-لا ..أن النسكافيه مضر بالصحة؟
ثم نظرت إلى المضيفة وقالت :
-إثنان ماء ؟
بعد أن ذهبت المضيفة ،قلت :
-لكني مواضبا على شرب النسكافيه منذ أيام الشباب ؟
قالت بسرعة أم قد حسمت الأمر:
-أعلم ذلك..أقصد يبدو عليك ذلك؟
أخذت بتأمل تقاسيم وجهها مجددا والتي أعادتني إلى الوراء لسنوات ..لو كانت صغيرة لقلت أنها هي ..هي ذاتها ..أو على الأقل عندما تكبر ستكون هكذا ..هكذا تماما ..فتخيلتها في تلك اللحظة صغيرة تجلس إلى جانبي ..لو لم تفرقنا الأقدار ..أو بالأحرى لوكنت أنا أكثر تعقلا لم أضعتها..لاأدري لماذا نحمل مسؤولية أخطائنا دائما للأقدار، أنا الحبيب الذي حطم قلب محبوبته بتردده ؛رفضتها أمي لأنها تكبرني بعشرة سنوات ..رضخت لرغبة أمي المريضة بالقلب ولم أغضبها خوفا من أن أفقدها..ولكني الأن فقدت أمي وحبيبتي معا.
لم أكن أعلم بأنها هي أيضا كانت تتأملني في الوقت نفسه،
أخرجتني من ذلك الشرود كله وفاجئتني بقولها:
- لاتفكر كثيرا ياعزيزي أنا ناديه ذاتها ؟
-ناديه !!
-نعم ..سبحان الله يقال الأحياء لابد أن يلتقون؟
-أنا...
-لازلت كما أنت ..تقسو على نفسك وبشدة؟
-ناديه أنا...أنا ..
-أنت ماذا يامن طعنتني بقسوتك وتخليت عني وحطمت قلبي ؟
-أنا أحبك.
-تحبني!! ليس هكذا يكون الحب ياعزيزي ..أن الحب وفاء وتضحية في سبيل الحبيب ..لا تضحية بالحبيب؟
-أنا بحاجة إليك.
-لكن أنت من أخترت الخروج من حياتي؟
-لقد ..كانت لي ظروفي التي تعلمينها.
-والأن هل تلاشت تلك الظروف ياعزيزي ..لقد أعطيتك قلبي ..وحبي..بينما أنت لم تعطني سوى الألم والمرض ..والأن تتعلل بالظروف ، لكني بقيت على حبك..بقيت وفية لك طوال ذلك الوقت ..وبالرغم مم بدر منك؟
-وأنا أيضا لازلت ...
-لكن مع طول الفراق إنتهى العمر ياعزؤزي؟
-وليكن..أنا لن أتخلى عنك بعد الأن..لن أفقدك بعد الأن.
وصلت الحافلة إلى نقطة التفتيش،وقالت نادية بعد أن تنفست الصعداء :
-حسنا ..حسنا..لنؤجل ذلك الحديث ياعزيزي؟
شعرت ببارقة أمل وقلت بلهفة الصغير:
-حسنا.
ترجل الجميع من الحافلة ..تم تفتيش الحقائب جميعها..بعد الانتهاء من التفتيش صعد الجميع من جديد إلى الحافلة ..لم تصعد ناديه بعد ،جلست على مقعدي من جديد محنيا ظهري ناظرا إلى سلم الحافلة منتظرا صعودها؛ وأنا في حقيقة الأمر أعلم بأستحالة اللقاء من جديد في خريف العمر، لكن كان لدي بصيص أمل أخيرا بأني ربما أحتفظ بما تبقى من اطيافنا بأجمل ذكرى في حياتي كما نحتفظ بالرسائل القديمة في زمن مضى ولن يعود ، وتذكرت في تلك اللحظة لماذا ارتعش جسدها وإنهمرت دموعها وتغيرت ملامحها عندما كشفت عن ذراعي كي تقوم بفحص ضغط الدم لدي؛ لقد رأت قلب الحب الموشوم على ذراعي وبداخله حرفينا ..حرف أسمي وحرف أسمها.
لكن إذا كتبت لنا الأقدار أياما سعيدة فأني بلاشك سأكون خادمك.
إنطلقت الحافلة من جديد ،وقفت ..ناديت على المضيفة ..قلت لها:
-أن المسافرة على هذا المقعد لم تصعد بعد؟
قالت :
-نعم أعلم ذلك لكنها لم ترغب بمتابعة الرحلة معنا ،لقد غادرت .
"إنتهت القصة "
وإلى قصة أخرى
تيسيرمغاصبه
١٩-٥-٢٠٢٣