رواية (رجل ونساء) الحكاية الثانية بعنوان /الشقراء
أطلق براد الشاي صفيره المعتاد، أفاق من شروده وحدق به ، رسم ابتسامة شاحبة على شفتيه، عادت به الذكريات، كان يقف بمعطفه الرصاصي السميك وقد أخفى يديه في جيبيه، ليس ثمة برد يمكن أن يبتز جسده الآن! كانت محطة القطار شبه خالية، أدرك انه قد جاء مبكراً، هز كتفيه وهمس لنفسه، ومالضير في هذا؟ نتجول ونحتسي بعض الشاي الساخن. كاد أن يصطدم بها وهو يستدير في طريقه لكشك بيع الشاي، يارب السماء! ماهذه العيون التي تحدق فيه، أنهما أوسع من حقل العشب البري ، ظل يحدّق فيها بدوره مثل الأبله ، ثم إنتبه للكف الصغيرة التي كانت تجذب ثوبها، اعتذر منها بإحناءة من رأسه، وود لو كان بإستطاعته التعلق بأهداب عينيها وهي تنصرف، ظل متسمراً في مكانه، مالبث أن أدار رأسه، وجد البنت الصغيرة تختلس النظر إليه وهي تتعثر!. أدار الملعقة في كوب الشاي، راح يحرك السائل بشرود،همس لنفسه،لم يتغير الحال، مازلت أعاني من العلة التي رافقتني منذ الطفولة، آه من الخجل!
-لطفا، هل ثمة حليب لهذه الطفلة؟ . كان ذلك الصوت الرخيم قد صدر من خلفه،إستدار ببطء، ارتجفت أصابعه وكاد كوب الشاي أن ينزلق، آه، إنها هي بذاتها صاحبة العيون الخضر! انتبه لنفسه، تنحى جانبا وهو يفسح لها مجالا أمام البائع، قال هذا الأخير وهو يمسح يديه بخرقة كانت بيضاء :
-حليب، طبعا يوجد حليب، لكنه ساخن. كنت أراقب ملامح وجهها الأبيض، هزت رأسها بلطف، قالت:
-طيب ليكن، اجعلهما إثنين، الآخر أضف له الشاي لو سمحت. أخرجت من حقيبتها بعض المال، كان البائع العجوز مشغولا بصب السائل الأبيض الذي أخذ البخار يتصاعد منه، كان أقرب له منها، مد يده لكن بخجل، انتبهت له ورفعت حاجبها، أدركت مقصده فإحمّر وجهها، وضعت النقود في راحة يده شبه المرتعشة وهمست شكرا لكن بصوت خافت. هذه المرة وهو يلاحق خطواتها الذائبة استدارت الطفلة أيضا، راحت ترمش لكنها لم تتعثر. كانت أصابع يده مازالت ترتجف عندما أشعل السيجارة، طلب كوباً كبيرا آخراً من الشاي، توقفت عيناه عند تضاريس الوجه المتعب للبائع العجوز، تبادلا ظل ابتسامة ثم راح يعد النقود. سار مبتعداً ، كان السائل الأسود الساخن يترجرج في الكوب، رمى بالسيجارة جانبا وتقدم للأمام ،آه هاهي، إنها تجلس إلى إحدى الموائد المتناثرة في محطة استراحة المسافرين، جلس بالقرب منها، كان بإستطاعته رؤية جانب وجههاالوسيم ، بدأ عدد غير قليل من المسافرين بالتوافد، راح قلبه يخفق بشدة، كانت منحنية تتحدث إلى صغيرتها، ترفع شعرها شبه الأشقر مابين لحظة وأخرى،وجد نفسه ينهض عن مقعده فجأة، فاز باللذات من كان جسوراً!هكذا همس لنفسه وهو يشعل سيجارة، أخذ يتخيل أثر اصابعها على صفحة خده ،توقف مترددا وهو يتحسس مكان الصفعة، تبا! ازدادت ضربات قلبه ، كان بوسعه سماع الدوي في صدره المضطرب!استدار وعاد لمقعده ثم انكمش على نفسه وراح ينفث الدخان في الهواء. بعد لحظات سمع صوت مقعد يسحب ثم خطوات تقترب رويداً رويداً منه حتى توقفتْ بالقرب منه، ظن الأمر في البداية حلماً، حينما باغته الصوت ذو الرنين الحلو :
-أظن بأنك كنت تود الحديث معي!. استدار لكن بصعوبة، كان كل شيء فيه يرتجف، ابتلع ريقه وهو يحدق في ملامح الوجه الوسيم! إتسعت ابتسامتها وهي تشير نحو المقعد الفارغ :
-الن تدعوني للجلوس؟ . لوّحَ بيده نحو المقعد واكتست ملامح وجهه بحمرة لم تخفى عليها، لم ينبس بحرف، حاول أن يقول شيئا، لكن الكلام احتبس فجأة،هرب بنظراته نحو وجه الطفلة شبيهة أمها، ابتسم لها وهو يرى محاولاتها الفاشلة في الصعود على الكرسي الآخر، نهض بسرعة، حمل الطفلة واجلسها برفق بجانب أمها، قالت :
-انت مسافر أيضا،أعني بنفس قطار الثامنة والنصف مساءاً؟. رد بتمتمة مبتلعا نصف كلماته، ازاحت شعرها الأشقر للخلف، قالت:
-أنا أيضا مسافرة على نفس القطار(حدقت بساعة معصمها )مازال أمامنا حوالي خمسين دقيقة، طيب حدثني عن نفسك! لاتخجل، من بعض فوائد السفر أن تلتقي بأصدقاء! أعني غرباء في البداية، أصدقاء في النهاية، تبدو طيبا، هيا حدثني، لقد كنت ترمقني كثيرا وتحوم حولي!. أربكه كلامها، مد يده يتلمس علبة سجائره، تبا، أين ذهبت هذه الأخرى! قال وعيناه تحدقان في نقطة وهمية خلفها :
-عندما رأيتك أول مرة، تذكرت شخصا عزيزا، أعني نفس الملامح!. إبتسمت له، بدا صادقا في بوحه هذا، قالت :
-هل الشخص هذا مازال موجوداً! أهو امرأة!؟
-نعم، لكنها لم تعد موجودة، لا أعرف إن كانت حية أم...حدث الأمر هذا منذ سنين، أعني كنا ندرس معا في الكلية. هزت رأسها، أخذت تتأمل أصابعه النحيلة المرتبكة وهي تطرق حافة الطاولة، قالت :
-هل تشبهني لهذا الحد!؟ . حاول النظر في عينيها، كانت قد عقدت حاجبيها، هرب بنظراته بعيدا، هَمستْ :
-كيف ستعرف إن كانت تشبهني وانت تهرب بعيناك هكذا! هل كنت تفعل معها ذات الشيء!؟ ابتلع ريقه، شعر بشيء من الراحة، لقد مست أصابعه علبة السجائر أخيراً ، أشعل واحدة، ابتلع الدخان بصوت مسموع، ثبت عينيه في وجهها، قال بصوت لا أثر للتردد فيه :
-أنت أجمل طبعا، عيناك أعمق وأوسع. إرتدّتْ بمقعدها للخلف، أخفت فمها بأصابعها المطلية باللون القرمزي، أدرك بأن ضحكتها حلوة مثلها، متزنة وعذبة! راحت الطفلة تتململ في مقعدها، انحنت الأم تسمع همسها، وجدها فرصة، راح يتأملها بصورة أكبر، إنها أجمل بكثير فعلا، هكذا همس مع نفسه قبل أن يصل إلى أذنيه صوت المنادي من مكبرة الصوت بضرورة صعود المسافرين للقطار. راحت تتهيأ، ظل في مكانه، هل سيكون الوداع الآن، وجدها ترمقه فجأة وهي تكبت ضحكة كبيرة، هتفت به :
-هل ستبقى جالسا هكذا، أليس هذا قطارك؟. احمّر وجهه، لم تتركه لحيرته، قالت :
-ساعدني وامسك بيد الطفلة، سأحمل الحقيبة. نهض مندفعاً، فاجأها ذلك لكنه ارضاها تماما، كان يسير أمامها وهو يحمل الطفلة بيد والحقيبة باليد الأخرى! (انتهى الجزء الأول /يتبع للجزء الثاني والأخير)
بقلم /رعد الإمارة /العراق