عابر سبيل، مرحلة الشباب
(لعاب) كنت قد وصلت توا إلى بغداد، قادما من أقصى الجنوب! وكان الضباب الذي قيد حركة الرؤيا قد راح يزول شيئا فشيئا، وضعت امتعتي في أقرب فندق،ثم هبطت إلى الشارع وأخذت أتصفح وجوه المارة!حدقت في ساعة ابي التي زينت معصم يدي، وسرعان ماارتسمت علامات الخيبة على ملامح وجهي المتعب، لقد فات الأوان لتناول طعام الفطور. توقفت عند أحد اكشاك الشاي المنتشرة على الأرصفة، لم يكن الطقس باردا جدا، لكني كنت ارتجف مع ذلك! نفثت دخان سيجارتي ورحت ارتشف الشاي بسرعة، سألت البائع الذي كان يكتب في قطعة كارتون ديون الصباح، عن موقع الكلية ، حدق في وجهي لبرهة، هز كتفيه ثم استدار منصرفا لتلبية نداء أحد الزبائن. رحت ادور في نفس المكان، الذي كان يعج بشتى أصناف الناس، سحقا للخجل الذي ورثته عن أبي! أوقفت سيارة أجرة، سألته عن مكان الكلية بأرتباك لم يخفى عليه، قال وهو يضحك في وجهي :
-اصعد، أنا أعرف مكانها. أصابني قوله براحة عجيبة، رحت أتطلع في ساعتي الكبيرة، هتف بي وهو ينطلق للامام :
-سنصل بالوقت المناسب، الدوام لم يبدأ بعد. لم نستغرق طويلا في بلوغ المكان، بضعة دقائق فحسب، رحت احدق في السائق بدهشة، قال بضحكة رنانة :
-وصلنا ياعزيزي،بناء الكلية أمامك. بعد شهور أدركت بأن بناء الكلية كان يقع خلفي ببضعة أمتار فقط 😨. كان أغلب الطلاب والطالبات قد اتخذوا أماكنهم في قاعات المحاضرات، كانت رهبة اليوم الأول واضحة على ملامح أغلبهم، وجدت صفي اللعين بعد سؤال هنا وسؤال هناك، وكان الفضل في هذا يعود لطلاب المرحلة الثانية والثالثة والرابعة، الذين اتخذ بعضهم من زوايا البناء موقعا مميزا لرصد طالبات السنة الأولى!. كان الصف مثل خلية النحل، سرت خافض الرأس بعد أن ألقيت نظرة سريعة على المقاعد الأخيرة شبه الفارغة، جلست بقلب خافق وقد أحمر وجهي، شعرت برغبة شديدة لتدخين سيجارة، التفت يمنة ويسرة، كان أغلب الطلاب يرتدون أفضل مالديهم من ثياب، لكن الصمت المشوب بالخجل كان يغلب على أكثرهم، أما الطالبات فيبدو إن تعارفهن وتآلفهن كان يسيرا، إذ سرعان ما تصاعد همسهن وأخذ يعلو ويعلو! سمحت لنفسي بأختلاس نظرة لهن، عددهن يربو على العشرين، سحقا، كان اغلبهن فاتنات! فجأة ساد سكون شمل المكان كله، استدارت الأجساد نحو القادم الذي كان يطرق الأرض بحذائه الأسود اللماع، اقترب الرجل ببذلته الرمادية التي أضفت مع شعره الشائب وقارا جعل أغلبنا يحبس أنفاسه، قدم نفسه بأبتسامة مهذبة ثم استدار نحو المكتب ذو اللون البني، راح يعبث للحظات بحقيبته، التفت نحونا مرة أخرى، كان يحمل بيده اليمنى بضعة أوراق بيضاء أخذ يهزها في الهواء ،وهو يصوب نظرات متتالية نحو كل منا! قال بعد أن أخذ نفسا عميقا :
-سأقرا عليكم اسمائكم، ثم نتعرف على بعضنا. راح يتلو الأسماء بأسلوب رصين لم يخلو من الفكاهة ،التي أخذ يطلقها هنا وهناك معلقا على الأسماء أو أصحابها،توقف في منتصف القائمة، أخذ يهز رأسه قبل أن ينطق بالأسم،رضاب! رد الصوت الموسيقي بنبرة خافتة، رفع رأسه وأخذ يحدق في اليد البيضاء الممتلئة،أحمر وجهي!إنها نفس البنت التي لفتت انتباهي بين مجموعة البنات، تقدم الأستاذ للامام، توقف قريبا من شلة البنات، ثبت الأوراق أمام عينيه ثم راح يطرق على الأسم بسبابته، هتف قبل أن يحدق في البنت ذات الوجه المستدير والشعر الأسود الغزير :
-اسم جميل جدا، هل يعرف أحدكم معنى اسم رضاب!.قال هذا ثم استدار على عقبيه، قبل أن يعود ليشمل الجميع بنظرات فاحصة،ارتفعت بعد تردد بعض الأيدي الخجولة للأعلى، أخذت اتفحص الحاضرين، راح قلبي يخفق بقوة واستيقظ في داخلي فجأة مارد الغرور! كنت أعرف معنى الإسم هذا، لطالما قرأت عنه في الروايات والقصص التي يمتلىء بها دولابي! وجدت يدي ترتفع للأعلى، حتى كادت أن تلامس سقف القاعة،ظلت يدي مرفوعة فيما راح الأستاذ ذو البذلة الرمادية يدير عينيه في الوجوه الأخرى، سحقا، كدت أن اصيح به، أنا هنا، الا ترى يدي! دار الأستاذ حول نفسه وحول المكتب دورتين وهو يمشي كالطاووس قبل أن تستقر عيناه على ملامحي، زم شفتيه ونطق بكلمة واحدة :
-أنت. رحنا نحدق ببعضنا لبرهة، خيل لي إن ثمة سخرية وشحت ابتسامته قبل أن يكرر لي :
-انت. ابتلعت ريقي وانا انهض بطولي النحيل، قلت بنبرة انتصار خجولة :
-لعاب. لم أزد بحرف عن إجابتي، وجدت معظم الطالبات والطلاب في المقدمة يلتفتون برؤوسهم صوبي، اصابتني نظراتهم التي ارتسم العجب في أغلبها ،بأكبر دهشة عراقية يمكن أن تصيب مخلوقا مثلي،كان الأستاذ يضع يده يخفي بها ابتسامته،شعرت وبصري يلتقي بذات الشعر الأسود الغزير بأنني ارتكبت حماقة!لا أعرف كيف جلست في مقعدي، ولا كيف انتهت المحاضرة اللعينة الأولى، أتذكر أنني بعد أشهر أرسلت إحدى البنات من زميلاتي كوسيط لنقل إعجابي بها، كان جوابها الذي نقلته زميلتي وصبته صبا في أذني هو، كيف لشاب وسيم مثله أن يقع في غرام بنت إسمها لعاب!!!!
بقلم /رعد الإمارة /العراق
19/1/2020