(مِن أيِّ دينٍ أنت/ قصة قصيرة/ ربيع دهام)
وأنا أقود سيارة حياتي، مِن المجهول إلى المعلوم، أوقفتني إشارة استفهام، مدجّجة بكل الأوهام.
شهرَتْ سلاح الجهلِ بوجهي وسألتْ:
"مِن أيٍّ دينٍ أنت؟"
صفنتُ ولم أعرف ماذا أجيب.
سمعتُ صوتاً مصدره داخلي. تفاجأتُ. لا أعرف كيف حصل هذا؟
تنصتُّ جيداً. وإذ بصوتٍ عابقٍ بزمن الماضي الرملي يحدّثني :
" أنا خلية فيها شيفرة أبيك الجينيّة. إذن قُل لإشارة الإستفهامِ أنت من دين الإسلامِ. عندئذٍ، تصل إلى طريق المعلوم".
كلامه منطقي. كوّرتُ فمي لأقول. لكن قبل أن أقول، صوتٌ آخر استوقفني.
صرخ الصوتُ: " تمهّل. أنا خلية فيها شيفرة جدِّك العاشر. وجدُّك العاشر مسيحيُّ. إذن قُل له أنت من دين المسيح. ساعتئذٍ، تشدّ الرحال إلى الطريق الصحيح. طريق المعلوم".
كلامه صائب. كوّرت فمي لأنفّذ، لكن صوتاً آخر زعزع حروف الكلمات المعلّقة على باب فمي، وأسقطها عن جدار اللسان.
صدحَ الصوتُ:" وأنا خليةٌ ما زالت فيها الشيفرة الجينية لجدِّك الواحد والثلاثين. وجدُّك الواحد والثلاثون كان وثنياً. إذن قُل له أنتَ وثني. وبهذا، وفقط بهذا، تطأ قدماك طريق المعلوم".
كلامُه حصيف. كوّرت فمي لأقول. لكن قبل أن أقول، داهمني صوتٌ هزّ كل مفاهيمي السابقة.
صرخ الصوت: " جدُّك السادس والأربعون كان فينيقياً. وإلهه هو بعل. فسجِّل عندك. وقل لإشارة الإستفهام تلك، أنك من دين بعل. وبعدها، بعد أن تنفّذ ما بحته لك، بإمكانك الإبحار إلى شاطئ المعلوم".
كلامه سديد. أردتُ أن أقول. وما إن كوّرتُ فمي لأقول حتى سمعتُ صوت خليّةٍ تدقُّ باب عقلي وتهمس:
" أنا من خليّة جدِّك السابع والخمسين. وشيفرتي الجينية تقول أنك سومري الأصل. إذن أنت تعبد الإله إنليل. فاكتب على صخرةِ عقلك وقُل لإشارة الإستفهام الغبية تلك أنكَ من دين إنليل. وبهذا، وفقط بهذا، يمكنك أن تسير إلى طريق الأبديّة. طريق المعلوم".
كلامه ثاقب. كوّرتُ فمي لأقول، لكن قبل أن أقول
سمعتُ صوتاً يخرج من مكانٍ بعيدٍ في داخلي.
وهمس الصوتُ:
" أنا مادة الكاربون. ما وُجدِتُ لولا انفجار النجوم في الكون. وهذا يعني، أيها المجبول بتلك المادة، أنك من صنعِ النجوم.
فأرجوك. أرجوك قُل للإشارة، أنك من دين النجوم".
كلامه بيِّن. هيّأتُ لساني ليقول. وما إن كوّرتُ فمي المسكين وهيّأته للنطق، حتى قرّر أن يكوّرهُ أكثر عقب البندقية اللعين.
العقب الذي كان قد شهَرَته إشارة الإستفهام بوجهي.
اصطدم العقب بعظام فكي فكسّرها وطحنها. ثم مزّقت الإشارة بسنانها الحادة ثيابي، وطرحتني عارياً، مثل أنيابي المهشّمة، في حضيض الطريق.
غرستْ حدَّها المسن برأسي وهدرتْ:
" أيها الكافر اللئيم. ألمتردّد الرعديد.
ألا تعرف ما دينك؟".
انتظرت جوابي من دون طائل.
ولمّا لم تلق مني إلا الصمت ركلتني. وعادت وركلتني. وركلتني وركلتني.
وعلى وقع صراخ الألم، أمرتني بأن أقِف، فوقفتُ.
وما إن انتصبتُ كلوحةِ الأقدار على قدميّ المترهّلتين، حتى أشارت بسبّابتها نحو طريق المعلوم.
زأرت بكل ما أوتيتْ من لؤمٍ وتعصّبٍ لا حدود له وأمرتْ:
"عُد! عُد من حيث أتيت أيها الكافر الزنديق!".
وعدتُ. عدتُ من حيثُ أتيت. وهل بإمكاني ألا أفعل ذلك وهي المسلّحة وأنا لا؟
ومشيتُ. ومشيتُ.
بجسد العاري، ومبادئي المنبوذة.
بالأصوات التي في داخلي، تتناوب وتحثّني على الرجوع.
وراحت الغبار والأشجار، والسنين والأفكار، تعبث بكياني المتهدّم.
وراح يشدّني الضياعُ من يدٍ، والتيه من اليد الأخرى، إلى أن وصلتُ ، بعد عدة أميالٍ، إلى لوحة خشبية مرمية، اتخذَتْها حبيبات الرمل مسكناً لها، فغطّتها، وحجبت ما تحتها من كلام.
اقتربتُ من اللوحة علّها تكون دليل طريقي الصحيح.
وما إن أزلتُ الرمال عنها حتى صعقني ما شاهدتُ.
كانت اللوحة عارية، مثل عرائي أنا، مِن كل حرف.
مثل واحة ماءٍ ما إن تصل إليها حتى يتبيّن لك أنها لوحة بريشةِ فنان.
أرخيت كتفيّ وجثوتُ على الأرضِ باكياً.
وهناك، رأيتُ فراشةً صغيرةً، قد علِق أحد جناحيها بحافة اللوحة. اقتربتُ من الفراشة، وبكل دقةٍ وتمعنٍ وإصرارٍ، حرّرتها.
طارتْ الفراشةَ فرحةً، عائدةً إلى سمائها.
ودّعتُها وابتسمتُ. وعلى وقعِ رفرفةِ جناحيها أدركتُ:
" ديني ليس الطريق التي اختاره ليَ الآخرون.
بل ديني هو ما أفعله أنا، في كل طريق أسلكه".