( في عتمة الحافلة )
سلسلة قصصية
"الموسم الرابع"
٢٠٢٣
-------------------------------------------
القصة الأولى
"يادنيا"
-١-
جلست على مقعدي في الحافلة إلى جانب النافذة في يوم يشتد فيه القيظ؛وهي الرحلة التي لم تنتهي ولن تنتهي أبدا ،لأني تابعت هروبي من حافلة إلى أخرى.
بعد هذا الشوط الطويل الذي قطعته؛ لازلت أشعر بالاختناق، وحاجة ماسة لصدر يحمل قلب محب لابوح له لواعج قلبي الذي لم ينعم بالراحة يوما،
حتى وأنا اليوم في بداية الخمسينات من عمري.
لا أجد أمامي وسيلة للهرب من ذكرياتي المؤلمة سوى التنقل من حافلة إلى أخرى، والسفر إلى أي إتجاه،
وحتى وأنا في سفري أو في وحدتي، أو حتى مشاحناتي مع تلك الزوجة القبيحة والتي لحسن حظي كانت عاقرا ؛كل شيء يعيدني إلى الماضي ؛ إن كانت كلمة محلقة ..عبارة بين أثنين..شظية من شتيمة تتسبب لي بنزف حاد.. جملة في مسلسل درامي ،سطر في كتاب ..أو جملة في أغنية ..مقطوعة موسيقية،
أي شيء . كل هذا يمكن أن يعيدني إلى الوراء؛ وبالتالي يتسبب في نزف جروحي من جديد.
وأنا أهرب اليوم من تلك المرأة ،شديدة الغيرة، المتسلطة..أهرب بلا عودة، أتساءل.. بيني وبين نفسي "كيف وقعت في شباكها يامن كنت يوما معبود الجميلات؟"
صدق من قال "أن حبك الأول هو حبك الأخير، لم ينسيك زواجك هذا حبك الأول ..ولاحتى التجارب التي سبقته"
مهما حاولت أن أعيش تجارب أخرى أو اللجوء إلى مغامرات مقصودة ..أو غير مقصودة ،آه....لكن إنتهى زمن ذلك كله؛أي مغامرات وأي تجارب الأن أيها العجوز.
فقط تألم ..لم تورثك تجاربك القديمة سوى الألم ، اللعنة أين قادني شريط ذكرياتي؛نادية التي اضعتها .. قالت لي مرارا :
"أنت لاتستطيع إيجاد أي تفسير لمشاعرك، وبالتالي تعبث دئما بمشاعر الأخريات..أعلم أنك لاتتعمد ذلك ،لكن أنت مشتت المشاعر والتفكير معا ..بل وحتى العواطف؟"
ياإلهي ..كيف تذكرتها اليوم..وتحديدا هذا اليوم ..على الأخص ..ياترى هل لازالت على قيد الحياة ؛الأن أدركت بأنها سعادتي المفقودة،
قالت لي يوما :
"اتخشى الحب ..أم تخشى من نتائجه العكسية فيما لو أنك فشلت في حبك..ههههههه بالرغم من أنك لم تفشل قبل ذلك ..أي أنت ربما تخشى من الحدث قبل وقوعه ،هذا فيما لو وقع الحدث، أم لعلك تخشى على مشاعرك فقط .. مشاعرك أنت ..وتعتقد بأن الأخريات بلا مشاعر؟"
أن حكمك كان قاسيا يا نادية..ظلمتني كثيرا ..أنا فقط أخشى من أن اقحم نفسي في صراعات أنا بغنى عنها ..وبالتالي تتسبب تلك الصراعات في تحطم قلوبكن، كذلك لم أرد إغضاب أمي الرافضة فكرة زواجي من فتاة تكبرني بعقد بأكمله،فالمرأة هي أساس عذابي ، ليتك ترين حالي اليوم .
إنبعثت أغنية سعاد محمد يكفينا لوم ......،
تنهي اللازمة ب "وجرحتني.." فأقول ليت الزمان يعود لأصحح ماافسدته،
ينبعث صوتها من جديد :
"لقد أخبرتك مرارا ياعزيزي..وأعود وأكرر؛ أنت حبيبي ..وصغيري..وصديقي في الوقت نفسه؛ ذلك بعد أن بحت لي بكل مابداخلك شعرت بأنك قطعة مني..والأن ألا يكفي قولي هذا لتتخذ قرارك ياعزيزي عموما أنا باقية على حبك حتى لو إتخذت قرارك بالابتعاد عني ..سأتمنى لك الخير دائما؟"
لامفر الأن وقد أعاد شيء ما شريط ذكريات إلى الماضي، سنوات طويلة مضت،
بينما كنت جالسا على مقعدي إلى جانب النافذة دون حتى أن أريح نفسي بأسناد ظهري إلى الوراء على مسندة المقعد "بالرغم من ألمه" كما وأني أنتظر متى تنطلق الحافلة لترسلني إلى المجهول ؛والأهم في الأمر هو أن تسير الحافلة وبالتالي يسير الزمن معها بسرعة،وأن أهرب...أهرب بعيدا من واقعي المؤلم.
إنبعث صوت رفيقة السفر الستينية والتي حضرت للتو و إتخذت موضعها على مقعدها إلى جانبي ؛تنفست الصعداء بمجرد أن أسندت ظهرها وقالت تحدثني مباشرة وبتودد :
-أوووف..ماهذا الحر..صباح الخير ؟
لافظة بعد عبارتها كلمة تودد وهي "دادا" .
كانت تفرد شعرها الأبيض والذي إتخذ شكل تسريحة يبدو أنها لم تتغير من سنوات طويلة؛ من أيام شبابها ،بشرتها البيضاء وملامحها يدلان على جمال قديم لايمكن أن تخفيه تضاريس وتعرجات
الأيام الناتجة عن تقدم العمر،
قلت وقد شعرت بالألفة والارتياح تجاهها:
-صباح الورد سيدتي ..لكن للأن لم تشتد حرارة الصيف بعد هههههه نحن لازلنا في حزيران؟
-هذا صحيح..لكن عفوا أنا لست سيدة هههه بل لازلت أنسة؟
-أعتذر كثيرا أنستي.
كنت لاازال مقوسا ظهري فقالت بتودد:
-هللا أسندت ظهرك دادا حتى لايؤلمك..نحن لم نعد شبابا؟
صوتها الجميل.. الرقيق والذي لم يجرؤ الزمن على تبديله ،لازال محتفظا بجمال الشباب،أنساني بأني لازلت مقوسا ظهري بقسوة شديدة على بدني ،بعد أن إشتد ألمه ؛قمت بتعديل جلوسي بحيث أسندت ظهري إلى الوراء على مسندة مقعدي ،
كانت كلما قالت عبارة تبتسم بحنان مم جعلها تضفي جوا من الألفة والراحة والسكينة ،فشعرت كما وأني أعرفها من سنوات طويلة ،لقد كان وجهها من تلك الوجوه التي تجعلنا نتعلق بها من أول لقاء،
جعلني ذلك أن أتأمل ملامحها وتقاسيم وجهها حتى تأكد لي "وإحساسي لايخيب أبدا" بأنها كانت آية من الجمال ؛ لكن ...رأيت في ملامحها أيضا أشياء أخرى
أدهشتني؛ لأنها عنت لي الكثير وقادتني إلى أبعد من ذلك.
(يتبع..)
تيسيرمغاصبه
١٩-٥-٢٠٢٣