"في عتمة الحافلة "
سلسلة قصصية
بقلم :
تيسيرالمغاصبه
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
الوطن الأكبر
-١-
لم يكن لي أي رغبة بتناول طعام الغذاء قبل سفري ،ولهذا وصلت إلى شركة السفريات مبكرا وجلست منتظرا موعد إنطلاق الحافلة التي ستقلني إلى مدينة العقبة، فأنا كم أحب الدقة في المواعيد.
أمضيت وقتي في تأمل الوجوه .
كان يوجد من بين المسافرين جنسيات عربية مختلفة ،منهم يعرف من لهجته ،ومنهم يعرف من خلال إرتدائه لزيه الشعبي الذي لايزال محتفظا به ،كان بعضهم متجهون إلى العقبة ومنها إلى إيلات للعمل هناك كما عرفت.
كان علي الرضوخ لتحريص زوجتي بضرورة ألا أنسى نفسي من تناول الطعام حتى لاينزل السكر ؛وتلك عادتي .
ستكون الرحلة أطول من سابقاتها؛حيث أن الرحلة في العادة تتجاوز الساعات الأربع بنصف ساعة في رحلاتها الصيفية العادية،لكن في الأحوال الجوية الغير مشجعة في فصل الشتاء فقد تمتد الرحلة إلى الخمس ساعات وأكثر، سيما لو تغير مسار الحافلة لأسباب أمنية.
وأن هذا ما سيكون خصوصا وللصدفة ؛ أن موعد رحلتي توافق مع وصول المنخفض الثلجي الأصعب الذي تواجهه البلاد إلى الآن .
أن رقم مقعدي هذه المرة لم يؤهلني للجلوس إلى جانب النافذة ..وحدي ،لأن مقعدي كان واحد من بين المقاعد الأربعة التي تحيط بالطاولة الوحيدة في الحافلة. وقد كان الذي يجلس قرب النافذة من جانبي رجل "بلدياتي"وهو لايهوى النظر من النافذة والتأمل والاستمتاع بالطبيعة الخلابة وإنهمار الأمطار في الخارج ؛كأنا ..وكبقية الناس لكنه يهوى الثرثرة.
أما الرجل الذي كان يجلس مقابل له فكان ينظر إليه متأملا تقاطيعه والزبد المقزز المتجمع حول فمه وتطاير اللعاب من فمه أثناء تحدثه.
وكان الرجل الذي يجلس في مواجهتي مباشرة مصري الجنسية يستمع إلى أحاديث الرجل ويبتسم دون النظر إليه..أو إلي.
فكان صاحبنا ثرثارا لايكف عن الحديث أبدا ،وهو يتعمد اسماع أحاديثه لغيرنا أيضا برفع صوته الغليظ ليصل إلى أبعد مدى متباهيا بنفسه معتقدا بأنه مثقف ،وهو يأتي بالأحاديث وكما يقال :"بشرق وبغرب " مع شد الشين والغين.
وعندما بدأ بتوجيه الأسئلة إلي سألني : "منين إنتي بلا زغره ياقرابه ؟"
أجبته :
"أنا أردني ؟"
قال مشككا بصدقي :
"والله والنعم ياقرابه ..أنا بالأول بحسبك مصري؟".
قلت بأقتضاب :
"كلنا عرب ."
تابع حديثه وهو غير مصدق كلامي :
"المصرين قدعان..مصر أم الدنيا ؟"
قلت :"صحيح."
قال :"بس شكلك ولهجتك..ودمك ..كل إشي بيك بيقول إنك مصري ..سبحان الله؟"
قال ذلك بينما بدأ الرجل المصري التحديق في وجهي هذه المرة.
قلت : "بتصير كثير..شو الغريب بالموضوع ؟"
قال وهو لايزال مشككا :"فيه عندك عيال؟"
قلت بضيق:" آآه عندي ."
قال كما وأنه مسطول :"وقديش إلك في الأردن هون..آآه هههههههه إنتي أردني ..نسيت ؟".
قال الرجل المصري مستغربا:
"لا..أنا مش مصدقك..إنتى مصري ؟"
إبتسمت قائلا وأنا أخرج بطاقتي الشخصية وأعرضها عليه :
"أنا بتشرف كثير أخي .. بس أنا فعلا أردني ؟".
فصمت بخيبة.
قال الرجل الثرثار الذي يبدو أن قضية الأعراق تهمه:
"و إنتي أردني أصلي وللا ؟"
فهمت ماذا يقصد وقلت :
"نعم ..أنا من الضفة الشرقية ..من جنوب الأردن لكني أعيش في عمان منذ ولادتي..وثم أخي أن الضفتان توئمان..كلنا إخوة..شو هذا الحكي أصلي ومش أصلي، لافرق عند الله بين عربي وعجمي إلا بالتقوى"
تدخل الرجل المواجه للرجل الثرثار أخيرا بعد أن إستفزه حديثه خصوصا عندما تطرق ذلك الرجل إلى العرق و العروبة والوطنية و..السياسة وقال يائسا:
"هو يعني يكون من وين مايكون ..نفس الإشي ..شو يعني إلي تغير من هذاك الوكت لهسى ؟"
فهم الرجل مايعنيه وقال :
"إنتي من وين ؟"
قال :
"أردني كمان ..."
رد الرجل الثرثار مستفهما:
"أنا فاهم ..بس إنتي أردني أردني وللا .."
فهم كلامه المكرر بسرعة وأجاب بغضب :
"أنا أردني الجنسية بس فلسطيني الأصل..من الضفة الغربية "
أجاب الرجل :
"أهلين بيك ؟"
قال الفلسطيني :
"مش لو العرب إتحدو كان خلصنا من هذا الكلام الفارغ وكان إهتمينا بالشيء الأهم..وللا عرب عرب على الفاضي..وشو إلي عملتوه للقضية!!".
رد الرجل محاول أن يصل صوته إلى أبعد المقاعد :
"ياأخي الكل بقول ليش ليش العرب مايتحدو طيب ما إنتي في بيتك مش متفق مع أخوك .. ماإنتي مش متفق مع ابن عمك ..مش متفق مع جارك..أي روحو دورولكو حكي ثاني ؟".
وتزداد حدة الجدال،
شعرت بالصداع الشديد من تلك الأحاديث التي أصبحت في رأسي كضرب المطارق.
بالرغم من حرصي على أخذ مستلزماتي معي إلا أني نسيت أخذ دوائي أيضا،فلم أتناول وجبة الغداء ولم آخذ الأقراص في موعدها.
لم يتعب أحد من التحدث أبدا ..وقد إنضم إليهم عرب آخرين من المقاعد القريبة وتحدث الجميع عن مواقف بلادهم وبطولاتهم، بعد مرور ساعة على الانطلاقة ..بدأت أصابعي بالارتعاش وأخذ عرقي يتصبب بغزارة ،تمر المضيفة لتكتب طلباتنا من البوفيه حينها تذكرت بأني لم أتناول طعام الغذاء ..فطلبت منها سندويشة واحدة ومن ثم أخذت طلبات البقية وغادرت .
بدأت أشعر أن أصواتهم بدأت تخفت شيئا فشيئا ..وكنت أشعر كما وإني أسقط في بئر عميقة الغور ..وكانوا ثلاثتهم يطلون علي من فتحة البئر.
"وللقصة بقية "
تيسيرالمغاصبه