قصة قصيرة بعنوان (سر تابوت باتيك)
بقلم الكاتبة الأردنية:أحلام محمد الملحم.
رمادٌ متناثر في تلك الأزقة المظلمة، قطع ثياب بالية مُهترئة مُلطخة بدماءٍ عَكر؛ جماجمٌ محطمة لازالت مُعلقة بسلاسلٍ معدنية صَدِئة، وعظام جُثث مُتهالكة تدلت منها.
لم أكترث لما يدور من حولي، أكملت طريقي والجزع يملأ قلبي، وضجيج مُثقل في رأسي، فقط أفكر كيف أجد أُليڤيا؟
فمنذ دقائق قليلة كنا نعبر الشارع وسط غابة بعيدة عن البلدة، استوقفنا عطل مفاجئ في فرامل الحافلة.
لمحتُ طيفًا من بعيد وسرعان ما اختفى، نعم انها أوليڤيا، إلتفتُ من حولي ولم تكن بمكانها قرب والدها، ركضتُ بين تلك الأحراش المظلمة دون وعيٍ مني، وقد حُجِب ضوء الشمس لكثافتها .
شعور الفزع يسيطر على مخيلتي، رباه أُليڤيا أُليڤيا أين أنتِ؟
أعتقد بأني سمعت صوت بكاء يخالطه صراخ، ركضت مسرعة بإتجاه الصوت والخوف يشتعل بين أضلعي، بدأت الصرخات تقترب أكثر؛ وعلى غفلة مني وقعت في حفرة لاتحاد أن تكون عميقة جدًا، ولكن تفوح منها رائحة الموت.
إنها أُليڤيا!
تحاول اخفاء جسدها الصغير خلف قطع أثاث رث تناثرت في أرجاء المكان.
أُليڤيا لا تخافي، أنا هنا أتيتُ من أجلك، أرجوك اقتربي لنخرج معًا من هنا.
ولكنها لاتصغي إلي وكأن شيء ما منعها من الصراخ او حتى الكلام.
حاولت تفحص المكان الذي نحن به، فدائمًا أحمل بجيبي مصباح مضيء.
إنه قبو قديم ممتلئ بأثاثٍ عفن، ودماء كثيرة قد جفت وگأنه مر عليها زمن طويل، لفت انتباهي لوحات فنية عُلقت في كل مكان لملكٍ موقعة بالدماء.
يا إلهي أين نحن، كيف سأخرج أُليڤيا من هنا، لابد أنه قدر لنا الموت في ذلك القبو المرعب.
حاولت الإقتراب منها ولكنها كانت تبتعد أكثر وقد غطى ظلام المكان على ملامحها، حتى بأني شعرت بالخوف منها، فقد أصبحت حادة جدًا، ربما حل بها أمر ما.
مرت ساعات طويلة وأنا أسمع اصوات بالأعلى تنادي بإسمي وأوليڤيا، ورغم صراخي المتكرر إلا أنه لم يسمعني أحد، وكأن المكان به تعويذة تحجب الصوت.
لم أبرح مكاني، تلعثم لساني وتبلدت أطرافي، فقد مرت الليلة الأولى والثانية والثالثة، وأُليڤيا نائمة على حافة سريرٍ تُغطيه دماء سوداء، وكأن أحد يجلس بالقرب منها، ففي كل ساعة تفتح عينيها وتحدق بي، وترقد مجددًا.
ها هي الليلة الرابعة ومازلنا نقبع في قعر القبو، خارت قواي، أشعر بأن الموت اقترب منا وأنا اراقب حركات أُليڤيا الغريبة وتمتماتها مع أحدٍ لا أستطيع رؤيته.
تمالكت نفسي كثيرًا وأنا أسمع اصوات كثيرة من حولي دون أن أرى أحد، إلآ أن رأيت أُليڤيا تتناول من أحدهم قطع من لحم بشري يقطر دمًا؛ صرخت حتى رُجت الأرض من تحتي، ركضت نحوها بخوف ورميت بقطعة اللحم أرضًا، وصفعتها على وجهها بقوة وانا بحالة هستيرية لم أمر بها من قبل، صرخت أُليڤيا أُليڤيا حتى سقطت أرضًا فاقدة للوعي.
لا أعلم كم مر من وقت وأنا لا أشعر بنفسي، فتحت عيني هذه المرة ويا لهول ما رأيت!
لم استطع تمييز أُليڤيا من بينهم، أُليڤيا فتاتي الصغيرة، بجسدها الرقيق وشعرها الأشقر المنسدل، وعينيها الزرقاوين كسماء نقية، مُلطخة بالدماء، بعينين جاحظتين، وجسد ممزق، وسلاسل ملتفة حول عنقها، وأشخاص كثر لايشبهوننا ابدًا، أستطيع رؤيتهم جيدا
هذه المرة؛ يلتفون حولها ويتلون تعويذات شيطانية، لم أفهم معظمها ولكني أدركت بأنها طقوس شعوذة لقتل أُليڤيا، فقد كان معلقة بسلاسل ككبش صغير بينهم.
تقمصتُ الثبات والهدوء، فقد نسوا أمري، يجب أن أخلص أليڤيا من براثن الموت، وأنجو بنفسي.
بحثت أثناء انشغالهم بتلك الطقوس في الاشياء المترامية هنا وهناك، فرغم كل القاذورات والدماء والعفن والأثاث الرث، فهناك زاوية مظلمة بعيدة عن كل هذه الضجة بها صندوق صغير، وسط جمجمة قديمة مُعلق فوق فوهة يخرج منها اللهب.
لابد وأن سر كل ماحدث لنا موجود في هذا الصندوق ؛ يجب أن احصل عليه إذًا.
فأُليڤيا لا تعي لمايحدث من حولها، فقد تم السيطرة عليها بتعويذات وطلاسم، فهي لا تحتمل كل هذا العبء فلم يتجاوز عمرها السادسة بعد.
الغموض يلفح المكان بأكمله، وقفت أتأمل تلك الفوهة وألسنة اللهب تتصاعد منها، عُلق فوقها سلاسل كثيرة وجثث قد تساقط لحمها، لم يتبقى منها سوى جماجم ورماد عظام بشرية.
أظن بأن مصيرنا مثلهم إن لم أجد الحل.
لا أنكر بأن اليأس تسلل إلى جوفي، فكيف لي وحدي أن أطفأ هذا الغضب، وأوقف هذه اللعنة.
أسمع تمتمات لا أفهم منها شيئا، وصوت اقدام تقترب، ركضت بلا وعي لأختبئ خلف لوح خشبي كبير يعلوه ساطور مخيف، وحلقات من حديد، مليئة ببقايا لحم بشري، حاولت إختلاس النظر وأنا أرتعد خوفًا، فإذا بهم يحضرون السلاسل والأغلال لتقيدها وبدأ الطقوس.
رباااه الوقت ينفذ، يجب الوصول للصندوق، فطريقة احتفاظهم به تدل على أن السر به، وكأنهم يقدمون القربان له.
هناك مفتاح معلق لايبدو بأنه مفتاح الصندوق فحجمه كبيرٌ جدًا، حاولت العبور من الجهة المقابلة للصندوق ملامسة للحائط بخطوات لا تكاد تلامس الارض حتى لا أثير صخبًا، حاولت مرارًا حتى وصلت للجهة المقابلة للصندوق، ماذا أرى!؟
إنه تابوت يعلوه كتاب كبير محاط بورق التاروت، وطلاسم وقلائد ذهبية.
وما أن حصلت على المفتاح المعلق بالقرب منه، وفتحت الكتاب حتى أضيئ التابوت بشكل مستقيم، كان الرماد يغطي المكان بأكمله، أخذت ورقة من تلك الاوراق وحاولت إسترجاع ذاكراتي ومعرفتي بعلم التاروت، جمعت تلك الأوراق فإذا بهم78ورقة، رسم على أربعة منها التراب والهواء والماء والنار، وهي أوراق الأسرار الصغرى، تنقسم إلى أربعة مجموعات وكل مجموعة تحتوي على 14ورقة، تتكرر صورة الملك فيها ، وفي كل مرة تدل على عنصر من العناصر المحيطة بنا؛ كان القسم الثاني يحتوي على 22ورقة نعم نعم تذكرت يطلق عليها السر الأعظم، إذًا يجب علي ترتيبها بطريقة صحيحة لحل لغز السر الأعظم.
بدأت بترتيبها، فقد تعلمت ذلك في جلسة لنا لتعليم قراءة أوراق التاروت في أحد المراكز التي تهتم بعلم الآثار وفك الطلاسم، فقد كنت أدرس التاريخ.
بعد عناء وتعب وخوف من عودتهم، وأنا أسمع صرخات أُليڤيا المدوية تملأ أرجاء القبو، تمكنت من فك شيفرة لغز السر الأعظم.
فقد كتب عليها (تخليص روح باتيك بنثر دماءٍ عذراء)
يا إلهي سوف تنثر دماء أُليڤيا على الصندوق المعلق، الذي حٌبست به روح باتيك، فقد كانوا يجمعون الأرواح النقية وتقديمهم كقربان، لتخليص باتيك وهو مايعني (النسب الطاهر الشريف ) حتى أكتمل اليوم العدد بروح أُليڤيا، 78حسب ما قالته أوراق التاروت.
فقد حفر إسم باتيك ملك المشعوذيين والسحرة على هذا التابوت.
والحل الوحيد أن تنثر الدماء الطاهرة قبل الإنتهاء من تلاوة تعويذة باتيك المقدسة.
لايمكنني التراجع، يجب أن أحصل على دم أُليڤيا قبل الساعة الرابعة فجرا وهو موعد تلاوة الطقوس، فتحترق روحه ويفنى إلى الأبد، هو وكل من معه.
بعد تقييد أُليڤيا ذهبوا جميعًا للإغتسال بالماء المقدس، فتلك أحد طقوس إحياء روح باتيك، تسللت إلى اللوح الخشبي وقد قيدت أُليڤيا بأغلال وسلاسل من حديد، كم اجتاحني الألم وأنا اسبب لها ذلك الجرح العميق لأحصل على دمائها، فها هو يقطر داخل تلك الزجاجة المحضرة مسبقًا لتصفيته.
حانت اللحظة لإسترجاع أُليڤيا، فقد سُيطر عليها بتعويذاتهم المشعوذة.
استجمعت قواي فإما أن ننجو أو نموت معًا.
في لحظة دخولهم نظروا إتجاهي بقوة، وأنا أحمل بيدي قاروة الدماء الطاهرة، فقد نسوا وجودي لإنشغالهم بطقوسهم.
يجب أن أركض مسرعة فقد كنت أقف مقابل الصندوق، وأنتظر عودتهم للقضاء عليهم، سأركض وأنثر الدماء عليه، متجاوزة فوهة النار، فإذا أخطأت سأصبح رمادًا، وإذا أصبت ستتناثر أرواحهم وكأنها هباء.
لايوجد لديهم الوقت فإذا اجتمعت العناصر الأربعة دون تلاوة تعويذة باتيك سوف يصبحون رماد، فأوليڤيا هي التراب المقدس فقد خلقت منه، والماء اغتسلوا به، بقي الهواء والشمس، لم يتبقى لبزوغ الشمس سوى عشر دقائق، سأفتح النافذة للسماح لها وللهواء بالدخول، وأنثر الدماء وبذلك ينتهي كل شيء.
ركضوا مسرعيين نحوي وأنا أسابق الريح كسرت الزجاج بيدي، وركضت وكأني في سباق للمارثون، أسابق الزمن، قفزت نحو فوهة النار وحرارتها تحرق جسدي، رميت بنفسي على الصندوق ناثرة دماء أُليڤيا، لأقع داخل الفوهة، ولكن..
سطعت شمس النهار ودخل الهواء النقي ونثرت الدماء على الصندوق، وفجأة كأنهم لم يكونوا، خمدت النار من تحتي، وتطايروا كالدخان، واختفى الصندوق، وحُرق تابوت باتيك في مكانه هو وأوراق التاروت.
لأفيق من ذهولي وسط صرخات أُليڤيا أمي أمي.
أدركت حينها بأنها تخلصت من تعويذة باتيك، فخرجت إليها مسرعة وأنا أرتعد خوفًا، ومازال دمها البريء يقطر، مزقت قطعة من ثيابي وشددت على جرحها حتى لاينزف اكثر، وأخذتها بين يدي لاقربها من قلبي وأخبرها بأننا وقعنا في ذلك القبو اللعين ويجب أن نخرج.
مرت تلك الليالي وكأننا أموات على قيد الحياة، فما زلت للآن اتلقى العلاج النفسي من أثر تلك الحادثة .
بقلم أحلام محمد الملحم