(في عتمة الحافلة )
سلسلة قصصية
"الموسم الرابع"
٢٠٢٣
---------------------------------------------------
القصة الرابعة
" مابعد الغضب"
-١-
شقيت طريقي نحو شركت الحافلات دون أن أعلم إلى أين ستقودني طريقي ،لكن حتما سأذهب إلى نفس المكان الذي كنت أزره دائما.
والأن ..حقيقة وللصدق أقلها؛ أن فقداني لوظيفتي بعد خمسة سنوات من الخدمة أثر كبير في نفسي ،وقد تغيرت لدي مفاهيم كثيرة .
وأنا شاب في مقتبل العمر لم يعد لدي ثقة بأي شيء ولا بذلك المسمى الحب ،ولاحتى انتماء للوطن ذلك الكلام المكرر عند البعض ..الكلام الاستهلاكي والذي يصب في خانة النفاق .
لقد أخلصت لوطني منذ البداية ..قدمت له الكثير أما هو فلم يقدم لي أي شيء ، فكان فقط يأخذ ..دائم الأخذ ..أبدا لم يقدم لي شيء ،حتى وظيفتي الحقيرة أخذها مني بعد أن تم الاستغناء عن خدماتي..كنت قد اعتقدت بأني قد عثرت على الوظيفة المناسبة وبالتالي أستطيع أن أعد حبيبتي بالزواج والاستقرار .
آه...ليتني أستطيع حرق كل مايحيط بي ،بل أستطيع؛ أن بداخلي الأن غضب يستطيع حرق كل شيء ..كل شيء ..دون أن ترتعش يدي.
الأن كرهت كل شيء ..نقمت على كل شيء ؛أسرتي ..حبيبتي ،آه حبيبتي..سأتخلى عنها كما تخليت عن كل شيء ..نعم فلماذا لاأتخلى عنها وأن أهرب فهي لن ترجو مني شيئا بعد فقداني لوظيفتي مع خسارتي لجميع حقوقي ،
بحثت كثيرا عن عمل ،لكن دون جدوى ..لم أعثر على أي عمل في زمن البطالة ..وزمن كل شيء سيىء ،
فلماذا أعذب "اخلاص" معي ..اخلاص ..أن أسمها منطبق عليها تماما،وكان ينطبق علي أيضا قبل ذلك،لكن الأن لا ،
لكني لم أخنها أبدا ،وقد شرحت لها ذلك ؛فأنا شاب أعزب وأستطيع التكيف مع الأوضاع العصيبة ..كالنوم على الأرصفة ..على الشاطىء..في الغابة ؛لكن هي لن تستطيع ،لماذا أجعلها عبء علي.
أن طريقي الأن هو طريق الإنتقام..ولا شيء سوى الإنتقام.
من كان يصدق بأني سأتخلى عن اخلاص..آه ..اخلاص التي كانت نبع الحنان ،ومثال للاخلاص والوفاء ،
كانت تقول لي دائما "بالصبر نتجاوز الصعاب ..أن حبنا أقوى من كل الصعاب "
لكن حبيبتي هذا كلام مسلسلات وروايات وأن الخيبة كانت أقوى بكثير من الحب ،أن الواقع المرير يريني كم كان كلام الروايات كلام سخيف وهو موجه للسذج من البشر .
فنحن نعيش في دول العالم الثالث كالاغنام ..مجرد أعداد؛ نوخذ لحم ونلقى عظم عندما تنتهي صلاحيتنا، أو كخيول السباق عندما تكسر سيقانها فأنها تقتل لأنها لم تعد تصلح للسباق والمراهانات.
أن أسرتي تخلت عني بعد أن فقدت وظيفتي بل وحملوني المسؤولية؛ لعلهم كانوا يريدون مني تحمل الإهانة للمحافظة على تلك الوظيفة الحقيرة.
لكن ذلك كله لم يعد يهمني ،فأنا اليوم مسافر ..مسافر بلا هدف أسعى إليه ..لا شيء أخاف عليه ،وإن وجد ذلك الهدف ؛فلن يكن سوى الإنتقام..الحرق ..الحرق فقط ..حرق كل ماأراه أمامي من قباحة تظهر أمامي متسترة برداء الجمال المزيف .
سأتنقل بغضبي وحقدي الذي إن تمكن سيحرق كل ماحوله ..سيحرق دون رحمة.
* * * * * * * * * * * *
وصلت في المساء إلى شركت النقليات الشهيرة ..رجوتهم بأن يسمحو لي بالسفر فورا إلى مدينة العقبة لأن إجازتي قد إنتهت دون أن أتنبه لذلك "هههه إجازتي من عملي الذي فقدته ،إجازتي الطويلة . إلى الأبد."
وافقت إدارة الشركة على سفري بعد أن وجدوا لي مقعدا خاليا في رحلة خاصة مع مجموعة مسافرين كانوا قد حجزوا مقاعدهم قبل السفر بيوم كما هو النظام كي يسافروا معا.
تأخر المسافرون وقالت لي المظيفة :
إن حان موعد السفر ولم يحضروا ستسافر وحدك؟"
أعجبني ذلك كثيرا لأني لاارغب برؤية أحد.
بعد دقائق طلبت مني الموظفة الصعود إلى الحافلة ..صعدت وجلست على مقعدي حسب الرقم ،
كنت أسافر هكذا في جميع إجازاتي الماضية ،أما اليوم فأن الإجازة دائمة ولاأعلم ماذا سأفعل بعد نفاذ نقودي .
في تلك اللحظة تمنيت ألا يحضر المسافرون وأن تنطلق بي الحافلة وحدي ،لكن قبل أن يحين موعد الرحلة بدقائق قليلة رأيت مجموعة من النساء المنقبات يصعدن الحافة وكن كلما مرن من جانبي ينظرن إلي
بتمعن ويتابعن سيرهن.
بعد أن إمتلأت جميع المقاعد إنطلقت الحافلة تزامنا مع غياب شمس هذا اليوم.
* * * * * * * * * * * * *
ابتعدت الحافلة عن عمان قليلا، كان قد خيم الليل ..لم يكن أي مضيفة في تلك الرحلة كما أخبروني قبل السفر فتبضعت من البقالة بعض احتياجاتي في السفر .
كان المقعد الملاصق لمقعدي خاليا أيضا فوضعت حقيبتي فوقه كالعادة،
وكنت أنظر من النافذة متابعا مرور فوانيس الأعمدة وهي تمر من أمامي كرؤوس عيدان الثقاب المشتعلة،أخرجتني من شرودي يد ربتت على كتفي ..نظرت بسرعة ..لم تكن ترتدي النقاب كمثيلاتها ..سألت نفسي "كيف سمح لها بالصعود بهذه الثياب الفاضحة مع عدد كبير من النساء المحتشمات ،كانت ستبدو جميلة لو أنها
لم تقم بتشويه نفسها بالوشم والخواتم والسلاسل بل والدبابيس المغروزة بوجهها وجسدها٠
استمرت بالتحديق بي راسمة ابتسامتها المثيرة على شفاه مبللة باللعاب ..أدرت وجهي عنها ،عندما لم ترى أي تجاوب مني نهضت وأعادت حقيبتي إلى مكانها ومن ثم غادرت.
وقفت متحججا بأني أريد إنزال شيء عن الرف لأرى أين تجلس تلك الفتاة حتى دهشت لما رأت عيناي ..لم تكن أي أمرأة منقبة بل جميعهن نزعن تلك الثياب وأخذن يسخرن من الحجاب والخمار باطلاق النكات ،وكن جميعهن غير محتشمات وكان بينهن شباب كانوا قد صعدوا متخفين بالنقاب أيضا.
وكان جميع الشباب والنساء يزينون أنفسهم بالحديد والخواتم والوشم والمكابس التي بدت لي مؤلمة جدا ،
وكانت منتشرة على الأذنان والفم والسرة والسيقان والرأس الحليق من جوانبه.
قلت في نفسي "ياإلهي ماذا أرى ..ومن هؤلاء!"
جلست في مكاني..لحظات وجائت فتاة أخرى ..جلست إلى جانبي ..لم أنظر إليها في البداية لكنها إقتربت مني واحاطت عنقي بذراعها الصقت وجنتها بوجنتي ..شعرت ببعض اللزوجة والبرودة ،نظرت إليها شعرت بالدهشة لما أرى،لقد كان خدها مثقوبا بشكل دائري، وكانت قد أخرجت لسانها المشروط من الوسط ليصبح أشبه بلسان الأفعى؛وكان ذلك هو الثعبان الذي لعق وجنتي.
قلت وقد سرت القشعريرة في جسدي بأكمله:
-عفوا ..ماذا تريدين ياسيدتي؟
-أترغب بأن نعيش معا لحظات الصدق والحقيقة المطلقة.
-عفوا ..لم أفهم ؟
أمسكت بيدي ولعقتها بلسانها كالقطة تماما ثم وضعتها على ركبتها ،شعرت بمزيج مابين نعومة ملمس ساقها ومطبات الدبابيس والحلقات المغروزة بساقها..فسرى في كامل جسدي تناقض عجيب مابين الرغبة والنفور.
فقلت مكررا:
-لم أفهم بعد سيدتي؟
-ألم تفهم بعد أيها الساذج.
قلت بعد أن شعرت بأن كرامتي قد خدشت من ذلك الوصف:
-عفوا ..أنا لاأفهم شيء..ولا أرغب بشيء ابدا؟
عندما نهضت من جانبي وذهبت قررت استبدال مقعدي الكائن إلى جانب النافذة بذلك المقعد حتى أضمن أن لاتحضر أي أمرأة من تلك النساء العجيبات فتجلس عليه مستغنيا عن النظر من النافذة عن قرب.
ياإلهي هل هؤلاء... لا لاأعتقد ذلك،
لكن ماأن أدرت وجهي نحو النافذة حتى رأيته يجلس على مقعدي إلى جانب النافذة.
كان فتى جميل الصورة ،بل هو مابين الفتاة والفتى..تمعنت به جيدا، ثيابه الفاضحة كثياب بقية المسافرين لكن جسده كان يخلو من
أي وشم أو دبابيس أوزينة أو أية ثقوب ،كذلك وجهه.
نظر إلي مبتسما وقال :
-كيف حالك ياصديقي؟
قلت بدهشة:
-الأن أخبرني كيف جئت إلى هنا.
-هههه وهل هذه مشكلة ،جئت من فوق المقعد؟
-ولماذا.
-كما تعلم أن الرحلة في الأساس لنا وليست لك ،لكن إن كان وجودي يزعجك سأذهب ؟
- لا عليك ،على أي حال أن الحافلة ليست ملك لأبي.
-هل هؤلاء يزعجونك؟
-لاأهتم لذلك لكني أنا أتمنى ألا أزعج أحدا .
-لعلك لاتحب النساء؟
-وهل هذه الوجوه هي وجوه نساء .
-ههههههههه .
مد يده إلي وقال :
-أنا "شاط" تشرفت بصداقتك؟
مديت يدي مصافحا وقلت مستفهما:
-شاط...أهلا بك صديقي ،لكن ماذا يعني شاط.
-إختصارا لكلمة شاطئ؟
-نعم ..إذن أنت شاطىء .
-نعم ..وأنت مااسمك ؟
-اسمي نار ..عفوا اقصد اسمي سامح، لكني لم اعد مسامحا.. لقد أصبح اسمي نارا منذ ذلك اليوم.
-أنت غاضب من شيء ما.. أليس كذلك ياصديقي .
-................ .
-إلى أين أنت متجه ياصديقي؟
-حيث متجه أنت .
-وماهو هدفك؟
-سأخبرك ياصديقي ، أنت شاطىء..أي ماء ..لكن أنا النار التي تنوي حرق كل شيء تراه أمامها .
قال وهو يتأمل جسدي باستهانة محاولا استفزازي:
-وحدك ؟
-سأستعين بكل شيء حتى لو كان الشيطان نفسه ..فمنذ ذلك اليوم ستكون قاعدتي في الحياة " من ينصرني أنصره حتى لو كان الشيطان ذاته".
ماأن سمع شاط هذا الكلام حتى إنفرجت أساريره وإزداد جمال وجهه بل وفتنته التي بدت كفتنة الشاطىء تماما..الفتنة التي تحرض على الاقدام والغوص.
(يتبع...)
تيسيرالمغاصبه
٢٤-٦-٢٠٢٣