السبت، 23 مايو 2020

ج2 من قصة {{ذات الضفيرة السوداء}} بقلم القاص العراقي القدير الأستاذ{{رعد الإمارة}}

(ذات الضفيرة السوداء /ج٢)

عدت وأصحابي قبل موعد الغداء بحوالي النصف ساعة، نظّفنا أجسادنا بصورة جيدة حتى إنها راحت تلمع تحت وهج أشعة الشمس ،تركت رفاقي الآخرين خلفي يمزحون ويعبثون مع بعضهم البعض واسرعت الخطى صوب بيت جدتي،كان يجب الوفاء بالعهد الذي قطعته لجدتي ومن قبلها عمتي ذات الوجه المدوّرْ! لم يكن لبنت الجيران ذات الضفيرة السوداء أي أثر عند الباب، عندما لاح ظلي في بداية الزقاق، فكّرتْ بأن ذلك أفضل  خاصة مع شعري النافر كالقش . دفعت الباب بقدمي ،رحت أصفّر بفمي لحن اغنية (اهواك)لعبد الحليم حافظ، راقني الأمر فأخذت أعيده وأنا ادور حول نفسي، فاجأني صوت جدتي وهي تردد بصوت عالٍ ،الله أكبر ،الله أكبر، تبا لي! جَمدتُ في مكاني مبتلعاً اللحن ،وَضعتْ عمتي سبابتها أمام فمها الضاحك وهي تحذرني، قالت بهمس وهي تسحبني من ياقة قميصي :
-حذاري أن تصدر صوتاً عندما تصلي أمي، إنها لحظات مقدسة تحب أن يعم السكون فيها البيت ، -قربت أنفها من رقبتي -عليك أن تستحم  أولاً قبل تناول الغداء، هيا حبيبي إذهب بسرعة قبل أن تشّمكْ أمي، رائحتك ليست طيبة .
_ لكني نظفت نفسي جيدا هناك. هكذا همست لها وأنا أحاول الإفلات من قبضة يدها عبثاً. كانت جدتي تداعب مسبحتها حين خرجت من الحمّامْ، رَفعتْ رأسها وقالت :
-هل نشّفتْ رأسك جيدا؟ سرّحْ شعرك وتعال هنا بقربي. قالت ذلك وهي تُفلتْ المسبحة وتربّتْ على السجادة براحتها. كدت أن اصطدم بعمتي التي كانت تحمل صينية الغداء لولا مهارتها، إذ ارتدّتْ للخلف بسرعة،أخذت تهز رأسها وهي تفسح لي مجالاً للمرور، عدت سريعاً، كان منظر افخاذ الدجاج ذات الجلد الذهبي وشرائح البصل الذابل فوق الأرز، قد جعلني أمرُّ بالمشط مرور الكرام على شعري، وَضعتْ جدتي حصة الأسد أمامي، طبقاً كبيراً تتصاعد منه الأبخرة،ثم دَسّتْ إلى جانب الفخذ الفخم، كبد الدجاج الذي اعشقه!. شعرتُ بثقل كبير في معدتي، أخذ رأسي يدور، تمدّدتُ على الأريكة الخشبية ذات القماش الأبيض المطّرز بالورود، أخذتْ عمتي وجدتي تحتسيان الشاي بصوت مسموع،  هززت رأسي علامة الرفض مراراً وتكراراً حين عرضتا علي إحتساء البعض منه، سرعان ماتمكن مني سلطان النوم ،شعرت بثقل في أجفاني ثم أخذت عيناي تنغلقان شيئاً فشيئاً ،من بعيد كان يصلني كلام المرأتين المتقّطعْ والذي  كان يتخلله ضحك كثير، ياترى هل كانتا تضحكان مني؟ . لا أعرف كم مضى علي من الوقت وانا غارق في نومي، كنت أحلم أو في سبيلي لذلك حين تناهى إلى أذني همسُ أصواتٍ غريبة! قَطعتْ جدتي مجرى الحديث الدائر بنوبة سعالها المعتاد ، َسمعتُ زوجة جارنا تهتف بلهجة بغدادية عذبة، إسم الله عليك دادة! أطبقتُ فمي شبه المفتوح، كان ثمة ذبابتان راحتا تتناوبان التحليق والهبوط على صفحة خدي وفمي، سحقاً!ليس هذا وقتكما، هكذا همست وأنا اصفع جبيني برفق حيث حطّتْ إحداهما. كانت عمتي تتحدث ضاحكة برقّة مع شخص آخر خيل لي بأني أعرفه، تحدثتا حول تفاصيل الثوب المراد خياطته،فتحتُ عيني شيئاً فشيئاً وأنا أشدُّ ما أكون حذراً، آه، هذا الصوت! إصطدمتْ عيناي شبه المنفرجتان بملامح ضبابية أولاً، نَفختُ بزاوية فمي، طارتْ إحدى الذبابتين، خرق أذني صوت نسائي يضحك، فَتحتُ عينيَّ على سعتهما هذه المرة، كانت تجلس في مواجهتي وهي تحاول إخفاء ضحكتها بأصابعها، لم ترمش بل واصلتْ التحديق فيَ قبل أن تدير وجهها صوب عمتي وتواصل الحديث! أغمضتُ عيني مرة أخرى، كان قلبي قد ازداد خفقانه حتى كاد أن يخترق صدري، فكرّتْ بأن  ذات الضفيرة وامها لابد قد حضرتا عندما كنت نائماً، شَعرتُ بالغضب من عمتي، كدت أن أشير لها بأصبعي الذي كان يطارد الذبابتين، لماذا لم تأخذيهن لغرفتك؟ ، أليست ماكينتك اللعينة هناك! لكني اكتفيت بوضع اصابعي كلها على وجهي هذه المرة.  تظاهرتُ بالإستيقاظ فيما بعد، كانت الضيفتان قد رحلتا، لكن عطرهما الحلو ظل يحلّق في أرجاء الغرفة،قالت عمتي :
-ما اخبار الذباب؟ كادت بنت الجيران أن تختنق من شدة الضحك، آه منك، كنت مضحكاً وانت تنفخ بزاوية فمك هكذا.  أخذتْ عمتي تعيد تصوير ماحدث بفمها، كانت ممثلة بارعة، حتى كادت أن تجعلني أشرق بضحكتي، أما جدتي التي كانت تتمايل في جلستها من شدة النعاس فإكتفتْ بسعلة قصيرة فحسب ثم عادت تغلق عيناها.  ساد البيت هدوء تام بعد أن غفت جدتي واستلقت على وسادتها القطنية، أما عمتي فقد لاذت هي الأخرى بغرفتها، أخرجتُ هذه المرّة رواية لأجاثا كريستي، رحت التهم صفحاتها الواحدة بعد الأخرى، لكني لسبب لا أفهمه وجدت الكتاب يقع من يدي ثم أغرق في نوم آخر تخللته أحلام متشابكة عن سكاكين وأبواب تفتح وشعر أسود ودبيب أقدام فوق سطح الجيران، اللعنة ! كم يبدو الحلم هذا حقيقي!!. عندما خرجت من غرفة الضيوف، كانت جدتي لاتزال تواصل شخيرها المتقّطعْ، حدّقتُ في باب غرفة عمتي، مشيتْ بخطوات بدت ثقيلة، خيل لي بأن ثمة نشيج كان ينبعث من خلف الباب المغلق! آه، عمتي الجميلة المسكينة، حتما هي غارقة في احزانها وتندب كالعادة حظها العاثر، لطالما سمعت جدتي تقول إن النحس يلازمها، وإلا كيف تدهس سيارة مسرعة خطيبها الأول بالرغم من أنه كان يمشي على الرصيف! أما الثاني ذو الأربعون عاما فلم تمهله السكتة القلبية التي هبطت عليه فجأة،لقد مات بعد ثلاثة أيام فقط من عقد الخطوبة! حدقت في باب السطح المغلق، هززت كتفي ورحت ارتقي درجات السلم قفزاً كالمعتاد. (يتبع /انتهى الجزء الثاني )

بقلم /رعد الإمارة /العراق

ليست هناك تعليقات: