(كآبة)
فركت العجوز زوجة المزارع عينيها في محاولة منها لطرد بقايا النعاس عنهما! ثم قطبت حاجبيها الأشيبين وهي تنصت! هل خدعتها اذنها المرهفة! لكنها كانت متيقنة تماما بأن الديك ذو العرف الأحمر لم يصدر له أي صوت عند الفجر! وكانت أشعة الشمس قد تسللت من خواص النافذة ورسمت خطوطا عدة على أرضية الغرفة! هل أصاب ديكنا المعتوه هذا مرضا ما! استدارت لزوجها الغافي تماما! هزته فصدرت عنه همهمة! همست له!هل سمعت صوتا للديك ذو العرف الأحمر عند الفجر! اجابها بصوت منهك! لا فقط صوت شخيرك المعتاد! لكزته في خاصرته بفتور ثم نضت عنها الغطاء وانتعلت خفيها وسارت نحو الباب! في الخارج كان الطقس طيبا! لكن كلاب الحراسة عندما لمحت العجوز أخذت تنبح نباحا متواصلا فموعد فطورها كان قد فات!! وحتى الفرس الوحيدة ذات العرف الأبيض أخذت تصهل بغضب مكبوت وهي تسير خببا خلف السياج الخشبي المسور على شكل دائرة!تجاهلت كل هذه النداءات المبهمة والمفهومة واكملت طريقها صوب حظيرة الدجاج شبه المعتمة!كانت ناقمة جدا على ديكها الوحيد الذي خلق كل هذا الارباك!إنه لم يفعلها من قبل ابدا! مسكين قد يكون مريضا!أو ميتا! تبا! لا! وسرعان ماطردت هذه الفكرة من ذهنها ولم تسمح لها بالمكوث في رأسها ابدا! مع ذلك هي كانت تشعر بالأسى! أصدر باب الحظيرة صوتا أشبه بالصراخ عندما دفعته! وهبت إلى أنفها الروائح العطنة فقامت بترك الباب مفتوحا ومنحت لضوء الشمس وللهواء فرصة أكبر للتسلل!أخذت تنظر يمينا وشمالا!ثم ضيقت مابين عينيها وحدقت في نقطة معينة! ليس عند الدجاجة ذات الريش الأسود ولا عند الدجاجات الثلاث ذوات الريش المبقع بالأصفر! وإنما في ذلك الشيء شبه الممتلىء للديك والواقف ساكنا مثل شجرة في إحدى زوايا الحظيرة!عندما تقابلت نظراتهما أخيرا فإن أقصى ما فعله الديك هو أن قام بتحريك رأسه المتوج بالعرف الأحمر الجميل !أخذ يحرك رأسه يمينا وشمالا! وحتى عندما اقتربت العجوز أكثر منه فإنه واصل هذا الأمر بطريقة آلية! همست المرأة لنفسها ! لقد جن الديك أخيرا! دنت أكثر منه وانحنت عليه! لكنها عندما مست باصابعها رأسه ارتد هذا للخلف لكن ليس لمسافة بعيدة! حسمت العجوز الأمر فأمتدت يديها المعروقتين وقبضت على الديك وحملته بين ذراعيها لكنه لم يبدي أثرا لمقاومة ما بل استكان تماما بين يديها وهو ينظر صوب الريشة الحمراء التي هوت عن جسده! خطت المرأة بحملها للخارج فيما أخذت الدجاجات الأربع يصدرن قوقأة اخذت ترتفع وتنخفض تدريجيا وكفت الأصوات وهمدت حينما أصبحت المرأة في الخارج وقد أغلقت الباب! كان عليها الإسراع في إطعام الفرس وكلاب الحراسة أيضا! ثم هذا وحدقت في مخالب الديك المنكمشة! اتخذت طريقها صوب الدار وقررت تكليف زوجها بأخذ الديك المحبوب ذو العرف الأحمر لطبيب القرية البيطري! إنه رأي صائب هكذا فكرت! ولحسن الحظ وجدته مستيقظا وقد انهمك بتسخين ابريق الشاي! وقفت ازاءه تماما وأرته مابين يديها ولم تنطق بحرف وإنما تركت لتعابير وجهها المتغضن اخباره بفحوى الأمر!مع ذلك فأنه رفع حاجبيه مندهشا قليلا! تنهدت متحسرة وقد أوشكت على البكاء !إنه ديكنا العزيز يازوجي !كما ترى ومست ريشه! أظنه مريض! إنه ساهم كما ترى!طيب طيب لاعليك! سأهتم بالأمر! اتركيه على المنضدة! نعم هناك ودعينا نتناول فطورنا! ثم سآخذه بنفسي!انفرجت اساريرها قليلا وقالت! ليس بي رغبة لتناول شىء! سأطعم باقي الحيوانات وعليك فقط أن تسرع بتناول فطورك! سأتركه الآن معك لكن كن ودودا معه! قالت هذا ثم استدارت مسرعة بعد أن ارقدته على المنضدة دون أن تنظر إليه واختفت خلف الباب! أخذ المزارع العجوز يحدق في الديك شبه الواقف على المنضدة من خلال سحب البخار المنبعث من قدح الشاي الكبير! أطال النظر وفهم الأمر وهمس لنفسه! وضعه بائس!ربما لم يعد يرغب بالحياة!حسنا سنرى مايقول بيطري القرية! وهكذا فبعد ظهيرة اليوم نفسه وقبل غروب الشمس بساعات قلائل كان المزارع العجوز قد عاد من القرية!أنزل بعض المؤن من على ظهر الفرس ثم قادها برفق إلى حيث مربضها المعتاد! وكانت زوجة المزارع تتابعه بنظراتها من خلف زجاج النافذة وقد اتكأت بإحدى ذراعيها على حافتها! وكان لديها حدس قوي أشبه باليقين بأن الكيس الكبير الذي كان زوجها يحمله بحرص يربض فيه ديكها ذو العرف الأحمر! ومن بعيد ألقى المزارع نظرة صوب النافذة التي يعلم إن زوجته تقف خلفها وتنهد ! ثم بهدوء أنزل الكيس وأطلق الديك! وبقي هذا ساكنا في مكانه على الأرض المتربة شبه منحني وقد نكس رأسه! عندها تحركت العجوز! وما هي إلا لحظات حتى كانت تقف إلى جانب زوجها الذي حدق في عينيها اللوزيتين المتعبتين وهمس لها! أنا آسف حبيبتي! الأمر لن يستغرق طويلا! هكذا أخبرني البيطري! قال هذا ثم وضع يده على كتفها وربت عليها بود! لكنها لم تنطق بحرف! فقط انتقلت بنظراتها من زوجها إلى ديكها واحنت رأسها! عاد زوجها وهمس لها بصوت مبحوح! إن الديك هذا! ديكنا المحبوب ذو العرف الأحمر والذي كان فردا من العائلة قد اصابته كآبة! حاولنا قدر الإمكان! رفض تناول أي شىء! حتى إنه أبى ارتشاف ولو قطرة من المياه! هو لم يعد راغبا بالعيش! لم نعرف السبب! ثم هز العجوز كتفيه! وهي تنظر للديك اغرورقت عيناها بالدمع أخيرا! انحنت المرأة ومدت اصابعها المرتعشة وأخذت تمسح على رأس الديك الذي لم يجفل وبقي ساكنا تماما! تحسرت بضعف! نهضت وسارت بخطى ثقيلة! لكنها التفتت للخلف وهمست فيما كانت عيناها مستقرتان على رأس الديك! سأنام باكرا هذا المساء! سار كل شىء كالمعتاد واطعم المزارع باقي الحيوانات! وحاول مرارا إطعام الديك! لكن دون جدوى!وحامت الدجاجات مطولا حوله! وأخذت الدجاجة ذات الريش الأسود تقترب منه وتدور ثم ترتد لمكانها! وقبل غروب الشمس بساعة كان الديك ذو العرف الأحمر قد مات أخيرا! وقف المزارع فوق رأسه! ثم أحضر رفشا وحفر حفرة ليست ببعيدة عن الحضيرة! وقبل أن يهيل التراب كان قد انتزع بعض الريش الأحمر الطويل عنه! ثم اهال التراب وثبت الريشات فوق قبره الصغير! وغير بعيد عنه كانت كلاب الحراسة قد نكست برؤوسها فيما صهلت الفرس عدة صهلات قصيرة قبل أن تصمت هي الأخرى! ولم تفعل باقي الدجاجات في الحضيرة شىء اللهم إلا أنهن كن يحدقن أحيانا في المكان الخالي الذي كان الديك يملؤه ثم يبدأن بقوقأة ترتفع وتنخفض تدريجيا! شيئا فشيئا!
بقلم /رعد الإمارة /العراق/
في 18/7/2019 من يوم الخميس
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق